logo.png
تكوين أسنان في أنابيب الاختبار*
طباعة



 إن الأسنان معقدة أكثر مما تبدو، فهي في الواقع أعضاء دقيقة

 بول شارب و كونن يونج

  نحن نستخف بأسناننا حتى نخسرها أو تحتاج إلى ترميمات أساسية، وعندها نصبح أمام خيارات صعبة: إما أن نتدبر حياتنا بدون الأسنان المفقودة أو أن نستبدل بها أسناناً اصطناعية لا حياة فيها. وتدل الإحصاءات في العالم الغربي على أن 85% من البالغين قد أجروا معالجة سنية من نوع ما، وأن نحو 7% من الذين بلغوا 17 عاماً قد فقدوا سناً أو أكثر، وأن معدل الأسنان المفقودة بعد عمر 50 هو 12 سناً.

 نظرياً: إن أفضل تعويض ممكن للسن المفقودة هو سن طبيعية صنعت من نسيج المريض ذاته ونميت في موقعها المطلوب، مع أن مثل هذه الأسنان المهندسة حيوياً bioengineered teeth قد كانت لسنوات مضت مجرد حلم، لكن التقدم الذي حصل مؤخراً في فهم كيف تنشأ الأسنان أول مرة قد تضافر مع تطور بيولوجية الخلايا الجذعية وتقانة هندسة النسج ليقربنا من تحقيق الأسنان البديلة الحية.

 إضافة إلى الفائدة المحتملة للأشخاص الذين يحتاجون إلى أسنان جديدة، يقدم هذا البحث ميزتين مهمتين في اختبار مفهوم تعويض الأعضاء organ replacement: الأولى أنه من السهل الوصول للأسنان، والأخرى أن حياتنا غير متوقفة على وجود أسناننا، مع أن وجودها يحسن نوعية حياتنا إلى حد كبير. قد تبدو هاتان الميزتان قليلتي الأهمية، ولكن عندما تبدأ الموجة الأولى من تعويض الأعضاء بشق طريقها نحو عيادات الأطباء فإن الأسنان سوف تخدم كاختبار حاسم في مدى قابلية مختلف تقنيات هندسة النسج للتطبيق. وبالنسبة إلى الأعضاء الأساسية اللازمة للحفاظ على الحياة، فإن الأطباء لن يكون لديهم أي هامش لارتكاب الأخطاء، أما في حالة الأسنان، فإن الأخطاء لن تهدد الحياة، ويمكن تصحيحها.

إن هذا لا يعني أن تصنيع (هندسة) الأسنان engineering teeth سوف يكون بسيطاً. فقد أسهمت ملايين السنين من التطور في ترسيخ العمليات المعقدة التي تنتج الأعضاء، ومنها الأسنان، خلال التطور الجنيني. إن التحدي الذي يواجهه مهندسو النسج هو كيفية تقليد هذه العمليات التي تسيطر عليها بقوة جينات (مورثات) الجنين النامي، لذلك فإن أفضل طريقة للبدء بتعلم كيفية تكوين الأسنان هي مراقبة الطبيعة تفعل ذلك.

حوار دقيق

بعد مضي ستة أسابيع من بداية الحمل يكون طول الجنين البشري أقل من بوصة واحدة وبالكاد يبدأ بأخذ شكل مميز. ومع ذلك يكون قد حدث حوار متبادل ومستمر بين خلاياه يُبدئ تشكل أسنانه ويقوده. إن تعقيد هذه الإشارات signals المتبادلة هو من بين الأسباب التي مازالت تمنع إنماء الأسنان والأعضاء الأخرى في أطباق المختبرات. وفي الحقيقة قد لا يتمكن العلماء أبداً من التقليد الصُّنعي لهذه الظروف بشكل كامل. وكلما ازداد فهمنا لهذه المراحل المبكرة من التطور ازدادت فرصنا في تزويد نسج السن المصنعة بأهم المشعرات cues لبناء العضو، ثم نترك الطبيعة تقوم بباقي العمل.

 

مثلاً: إن معظم الأعضاء ومن بينها الأسنان تتكون من خلايا تآثرات بين نوعين متمايزين من الخلايا الجنينية هما ظهاري epithelial ومزنشيمي mesenchymai. إن الخلايا الظهارية الفموية في الجنين (والتي مقدر لها أن تبطن التجاويف الفموية) ترسل أولى الفك والنسج الرخوة) لتأمرها بالبدء بتكوين السن odontogenesis. وما إن تتلقى الخلايا المزنشيمية تعليماتها الأولية حتى تبدأ بإرسال إشارات الرد إلى الخلايا الظهارية. ويستمر هذا التبادل المتعاكس خلال تطور السن الجنينية.

في البداية، لا تكون السن المستقبلية أكثر من تسمك في الظهارة الفموية الجنينية. ومع نموها، تبدأ الظهارة باختراق النسيج المزنشيمي الذي يقبع تحتها والذي بدوره يتكثف حول هذا البروز الظهاري مشكلاً برعماً tooth bud وذلك في الأسبوع السابع من عمر الجنين. ومع ازدياد اختراق البروز الظهاري فإنه يلتف حول النسيج المزنشيمي المتكثف ليشكل في النهاية بنية ذات شكل جرسي مفتوحة من الأسفل، وذلك في الأسبوع 14 تقريباً. وأخيراً، فإن هذه الظهارة سوف تصبح الميناء الخارجي المرئي للسن التي ستبزغ من لثة الطفل وذلك بعد ستة أشهر إلى اثني عشر شهراً تقريباً من الولادة، أما الخلايا المزنشيمية فإنها تكون قد شكلت الأقسام غير المرئية من السن كالعاج واللب السني والملاط والرباط حول السني الذي يربط السن بعظم الفك.

حتى قبل أن تبدأ هذه السن بالتكون، فإن شكلها يكون مقررا سلفا عن طريق موقعها، حيث إن بعض الإشارات المحرضة التي أطلقتها الظهارة والتي تبدئ تكون السن، تنظم عمل مجموعة مهمة من الجينات في مزنشيم الفك، تعرف بجينات (مورثات) الصندوق المثلي (أو صندوق الاستبدال) (1) homeobox genes، تشارك في تحديد شكل وموقع الأعضاء والزوائد في كل الجسم خلال النمو الجنيني. ففي الفك النامي عند الإنسان يتم تفعيل جينات صندوق استبدال مختلفة في أمكنة متباينة لتقود كل برعم سني عبر مساره ليصبح رحى أو ضاحكاً أو ناباً أو قاطعاً.

 وعلى سبيل المثال، تفعِّل الخلايا المزنشيمية في المواقع التي ستنمو في الأرحاء(2) جينة تدعى Barx1. وفي التجارب على الحيوانات، فإن تفعيل هذه الجينة Barx1 على نحو خطأ، في مزنشيم يعطي قواطع في الأحوال العادية، يجعل هذه الأسنان تنمو بشكل أرحاء. ولما كانت القدرة على التوقع المسبق والتحكم في شكل السن ستصير شيئاً أساسياً في تصنيع أسنان مهندسة فإن بإمكان العلماء استخدام نشاط الجينات مثل الجينة Barx1 كواسمات markers تنبئية دقيقة للشكل المستقبلي حينما يبدؤون باستنبات الأسنان في المختبر أول مرة.

وعلينا، بدورنا أن نؤمن الإشارات المناسبة للأسنان النامية في الوقت المناسب. فمنذ الستينات بدأ باحث مثل (كلاستون) (من مختبر أبحاث Strangeways في جامعة كمبردج بإنجلترا) باستكشاف إمكانية إنماء أسنان من خلال التجريب على نسج فأرية. وخلال العقود الثلاثة التالية أجريت دراسات كانت بمثابة بذور التطور للتجارب الحالية، تم فيها الجمع بين قطع صغيرة من ظهارة سنية ومزنشيم سني من جنين فأر، وبعد ذلك تم تنميتها في طبق مستنبت نسيجي أو زرعها جراحياً في جسم العائل (الثوي) host، حيث ستحصل النسج التي أعيد جمعها على التروية الدموية. أظهرت هذه التجارب أن بُداءات الأسنان الجنينية embryonic tooth primordial هذه يمكن أن تستمر في النمو مشكلة العاج والميناء كما لو أن ظهارته وميزنشيمه مازالتا في الجنين، إلا أن نموهما يتوقف مبكراً ولا تكون الحصيلة في النهاية سنا مكتملة التشكل. ويعود السبب في ذلك إلى أن شيئاً ما مفقود في البيئة التي تنمو بها.

إن عوامل النمو والإشارات الأخرى اللازمة لاكتمال تشكل السن في الجنين تأتي غالباً من نسج الفك المحيطة بها. وهكذا يبدو أن الحل البسيط هو زرع بداءات الأسنان tooth primordial داخل الفك حتى يكتمل نموها عند تصنيع الأسنان البديلة، فإنه يجب من الناحية المثالية، أن تنمي في موقعها الدائم حتى تتمكن من إنشاء ارتباطات من الأوعية الدموية والأعصاب وأن ترتبط بعظم الفك. إلا أن عظم الفك عند البالغ ذو بيئة مختلفة كثيراً عن تلك التي عند الجنين، لذلك فإن العلماء غير متأكدين مما إذا كان عظم الفك عند البالغ سيؤمن الإشارات الصحيحة للسن النامية.

 وأكثر من ذلك يجب أن يتم بناء بداءة السن من التركيبة قد تبدو السن بسيطة من الخارج، ولكنها من الداخل أعجوبة بالغة الدقة في التصميم والبناء وتستغرق نحو 14 شهراً لتكتمل عند الإنسان النامي، يتحدد نوعان مختلفان من النسج الجنينية البدئية primordial embryonic tissue معاً لتشكيل سن، ويوجه هذه العملية حوار جزيئي مستمر بينهما، ويدرس مهندسو النسج هذه الإشارات والمراحل لفهم المشعرات اللازمة لكل مرحلة لتقليدها عندما يقومون بابتداع أسنان بديلة مصنعة حيوياً.

 

تكوين السن

تبدأ الأسنان بالتشكل بعد مضي ستة إلى سبعة أسابيع من نمو الجنين البشري، حيث لا يزال كامل الرأس يأخذ شكله، ففي موقع السن المستقبلية، يتمسك النسيج الظهاري الفموي قليلاً ويؤدي نشاط الجينات داخل خلاياه إلى إرسال إشارات إلى النسيج المزنشيمي القابع تحته. ومع ازدياد اختراق الظهارة فإن الخلايا المزنشيمية تستجيب بإصدار إشاراتها الخاصة وتتكثف حول البروز الظهاري لتشكل البرعم السني، وفي الأسبوع التاسع، تصبح الظهارة على شكل قبعة تعلو المزنشيم المكثف، ويشاهد في مركزها بنية تدعى عقدة الميناء enamel knot، وهي الآن المصدر الرئيسي للإشارات التي توجه نشاط كل من الخلايا الظهارية والمزنشيمية. وفي الأسبوع الرابع عشر تأخذ جرثومة(1) (أرومة) السن tooth germ شكل جرس يشتمل على خلايا متمايزة تدعى الأرومات المينائية ameloblasts التي ستكون الميناء enamel فيما بعد، وخلايا متمايزة أخرى تدعى أرومات الخلايا السنية odontoblasts التي ستشكل العاج. أما الجذور فهي آخر البنى تطوراً، ويكتمل تشكلها مع بزوغ السن بعد ستة إلى اثني عشر شهراً تقريباً من الولادة.

 الشكل النهائي للسن

تعرف السن الحية على أنها عضو organ، لأنها تشتمل على أنواع متعددة من النسج، كل منها له وظيفة أساسية، فالميناء: هو أقسى سطح متمعدن في الجسم، يحيط بداخل السن ويحكم إغلاقه ويحميه، والعاج: هو مادة تشبه العظم يشكل كتلة السن ويخدم كوسادة cushion تقاوم قوى المضغ، واللب السني: يوجد في المركز ويحوي الأوعية الدموية المغذية والأعصاب التي تؤمن الإدراك الحسي، والملاط: يشكل السطح الخارجي القاسي للسن في المناطق التي لا يغطيها الميناء، والرباط حول السني: هو نسيج ضام يرتبط بكل من الملاط وعظم الفك مثبتاً السن في مكانها، ويؤمن فوق ذلك بعضاً من المرونة.

  خلايا سنية مأخوذة من خنازين يافعة، تم بذرها seeded على سقالة قابلة للتدرك (التقوض) الحيوي biodegradable scaffold ونراها باللون الأزرق على طول حوافها بعد أسبوع واحد من الحضانة (أعلى اليمين). وبعد مضي 25 أسبوعاً من النمو (أعلى اليسار) نرى أن السقالة قد تحللت وحل مكانها لب سني وميناء وعاج جُدُد. وفي سلسلة من مثل هذه التجارب نمت بنى دقيقة تشبه السن وسط النسج الجديدة. وفي 15 إلى 20 في المائة من الأسنان المصغرة لوحظ تعض صحيح لنسج سنية (أسفل اليمين) بما فيها بنية أولية للجذر تعرف باسم غمد جذر هرتفك الظهاري Hertwigصs epithelial root sheath (Hers)، وفي حالات أخرى كانت بنية السن غير صحيحة أو غير كاملة (أسفل اليسار)، ومع ذلك يبدو أن هذه الأسنان المصنعة تثبت أن الخلايا السنية المبعثرة تستطيع أن تعيد تنظيم نفسها لتعطي نسجاً سنية أكبر.

الصحيحة من الخلايا حتى تنتج سنا ذات مادة وبنية طبيعيتين، ويفضل استخدام خلايا من جسم المريض ذاته (الشخص الذي فقد بعض أسنانه) على استخدام خلايا جنينية، لأن نسج المريض ذاته لن تعتبر جسماً غريباً، ومن ثم لن تحرض استجابة مناعية.

يجب تحقيق ثلاثة إنجازات أساسية لإثبات ما إذا كان بالإمكان تصنيع السن التعويضية من أصل حي:

الأول: يجب تحديد مصادر الخلايا القادرة على تشكيل السن وأن تكون سهلة الاستحصال من المرضى أنفسهم.

الثاني: يجب أن تكون الأسنان المنتجة من هذه الخلايا قادرة على النمو في بيئة الفك البالغ، وقادرة على تشكيل جذور ترتبط بالعظم برباط عامل (وظيفي) حول سني functional periodontal ligament.

الثالث: يجب أن نكون قادرين على التوقع المسبق والتحكم في شكل وحجم هذه الأسنان التي من أصل حي، بحيث تماثل أسنان المريض. إن هذه الإنجازات أهداف طموحة، لكن تقدماً كبيراً قد حصل باتجاه كل منها بوساطة مجموعات بحث مختلفة استخدمت طرقاً متباينة.

 

بناء السن البيولوجية

في أواخر الثمانينات من القرن العشرين قام فاكنتي (الجراح المختص بزراعة الأعضاء في كلية الطب بهارفرد) و لانكر (المختص بكيمياء البوليمرات في معهد ماساتشوستس للتقانة) بتصور فكرة وضع خلايا من عضو أو نسيج على سقالة (منصة) scaffold مصنعة مسبقاً وقابلة للتدرك الحيوي biodegradable بهدف توليد نسج أو أعضاء للزراعة. وبعبارات مبسطة كانت طريقتهم تستند إلى حقيقة مفادها أن النسج الحية مكونة من خلايا ترسل إشارات فيما بينها باستمرار، وغالباً ما تتحرك في مجتمع ثلاثي الأبعاد من نوع ما. ويبدو أن كل خلية تعرف مكانها ودورها في المجموعة الأكبر التي تشكل النسيج العامل وتقوم بصيانته. لذلك إذا قمنا بإعادة تجميع المزيج الصحيح من الخلايا المتفرقة ضمن سقالة تماثل بيئتها الطبيعية الثلاثية الأبعاد، فإن هذه الخلايا يجب أن تعيد ـ غريزياً ـ تشكيل النسيج أو العضو الذي تنتمي إليه.

إن سلسلة النجاح المبكرة التي حققها (فاكنتي) و (لانكر) في إعادة تكوين أجزاء من نسيج كبدي باستخدام خلايا كبدية اعتماداً على استراتيجية السقالة هذه، قد أدت منذ ذلك الوقت إلى انتشار التجارب التي تستند إلى هذه التقنية لإنتاج نسج أخرى معقدة مثل عضلة القلب والأمعاء الدقيقة والعظام المتمعدنة mineralized bone، وحالياً الأسنان. في عام 2000م بدأ العالمان (ييليك) و (بارتلت) (من معهد فورسايث في بوسطن) بالعمل مع فاكنتي للتحقق من جدوى هذه التقنية في تصنيع الأسنان الحية، وذلك بالتركيز على الخنازير التي تشابه الإنسان، لأنها تنتج مجموعتين من الأسنان خلال حياتها (اللبنية والدائمة).

  يبدو أن كل خلية تعرف مكانها في المجموعة الأكبر، وقد اشترك أحدنا (يونك) في هذه التجارب، وفيها تم اشتقاق المادة الخام من الرحى الثالثة غير البازغة (ضرس العقل) لخنزير عمره ستة أشهر. وللحصول على مزيج عشوائي غير متجانس من خلايا الظهارة المينائية وخلايا مزنشيم اللب السني، تم تكسير أضراس الخنزير إلى قطع صغيرة، ثم بعد ذلك أذيبت باستخدام الإنزيمات. وجرى صنع سقالات على شكل أسنان من لدائن من البوليستر قابلة للتدرك الحيوي، وتم تغطيتها بمادة تجعل اللدائن لصاقة، بحيث تلتصق الخلايا بها، ثم بُذر هذا المزيج من الخلايا في السقالات، وزرعت هذه البُنى جراحياً داخل جرذ عائل، حيث تم لفها بالثرب omentum، وهو غشاء من مادة بيضاء شحمية غني بالأوعية الدموية ويحيط الأمعاء. وهذه الخطوة مهمة لأن نسج السن النامية تحتاج إلى تغذية دموية وفيرة تمدها بالعناصر الغذائية والأكسجين اللازمين لنموها.

في البداية وفرت السقالات الدعم والإسناد للخلايا، ولكنها ذابت فيما بعد، كما هو مرتقب، واستبدل بها نسيج جديد، وعندما فحصت الزرعات بعد مضي فترة 20إلى 30 أسبوعاً ظهرت بنى دقيقة تشابه السن ضمن حدود السقالة الأصلية، وكان شكلها وتعضي نسجها يشابهان تيجان الأسنان الطبيعية. واحتوت أيضاً على معظم النسج التي تكون السن الطبيعية، مما يثبت لأول مرة أن الميناء والعاج واللب السني وما يبدو أنه ملامح جذور سنية في طور النمو، جميعها قابلة للتصنيع على السقالات.

 يبدو أن هذه الخلائط من الخلايا السنية تستطيع أن تعيد تنظيم نفسها على السقالات لتعطي تنسيقات تساعد على تكوين ميناء متمعدنة وعاج ونسج رخوة. وبالطبع، فإن التفسير الآخر المحتمل لهذه النتائج المثيرة هو أن التوزيع العشوائي للخلايا التي تم بذرها على السقالة لم يساعد على تكون النسج السنية إلا مصادفة. ولذلك قامت مجموعة فورسايث باختبار هذه الاحتمالات في دراسة جديدة باستخدام خلايا ظهارية ومزنشيمية سنية تم عزلها من أرحاء أولى وثانية وثالثة من جرذان، ولكن هذه المرة تم تنمية الخلايا وإكثارها في مستنبت نسيجي لمدة ستة أيام قبل أن تبذر على سقالات وتزرع في جرذان عائلة. وبعد مضي 12 أسبوعاً من النمو تم اقتلاع النسج الناتجة وفحصها، وللمرة الثانية شوهدت بنى سنية صغيرة تتألف من ميناء وعاج ونسيج لبي، تكونت ضمن السقالة الأصلية.

كانت هذه النتائج الجديدة مشجعة لأنها أضافت بعض الدعم إلى الدليل السابق الذي مفاده أن الخلايا تستطيع أن تعيد تنظيم نفسها في تشكيلات تؤدي إلى تكوين الإنسان. وأكثر من ذلك، لم يظهر أن هناك تأثيرات غير مواتية في الخلايا نتيجة إكثارها في المستنبت، وهي عملية ستكون أساسية في تصنيع الأسنان البشرية التعويضية لأن مهندسي النسج سوف يضطرون على الأغلب إلى تصنيع السن التعويضية من عينات صغيرة من خلايا المريض ذاته. وأخيراً، برهنت هذه التجربة على إمكانية تصنيع الأسنان عند نوع ثان من الثدييات (الأول هو الخنازير)، مما يعزز احتمال نجاح مثل هذه الطريقة عند الإنسان.

على الرغم من أن فريق فورسايث كان قادراً على تصنيع معظم أنواع النسج المطلوبة باستخدام خلايا من مصدر بالغ، فإن هذه النسج قامت بتنظيم نفسها في مجموعات تشابه تلك الموجودة في السن الطبيعية في 15 إلى 20 في المائة فقط من عدد المرات. لذلك فإن الفريق يتابع العمل باستخدام طرق أدق في وضع أنواع مختلفة من الخلايا السنية ضمن السقالات للحصول على أسنان ذات بنية أكثر دقة.

وفي الوقت نفسه، يتحرى الفريق إمكانية أن لا تكون النسج السنية الجديدة المشاهدة في هذه التجارب ناتجة من مجرد إعادة تنظيم الخلايا السنية غير المترابطة فحسب، بل لعل براعم الرحى الثالثة التي حصلنا منها على الخلايا التي بذرت على السقالة قد احتوت على خلايا جذعية مخفية (وهي الأسلاف الفاعلة لأنواع الخلايا الأخرى) وهي التي كانت مسؤولة عن تشكيل النسيج الجديد. وإذا صح ذلك فهو يعني أنه ربما يوجد خلايا جذعية سنية جديدة داخل الأسنان نفسها قادرة على إنتاج معظم أنواع النسج السنية اللازمة للتصنيع الحيوي للأسنان، وأن هذه الخلايا موجودة على الأقل لغاية سن البلوغ المبكر عندما تبزغ أضراس العقل. إن امتلاك البالغ لمثل هذه الخلايا السنية الجذعية ذات الاستخدامات المتعددة سوف يؤدي بالتأكيد إلى تسريع الجهود المبذولة لتكوين الأسنان على السقالات، وربما تسهل أيضاً طريقة تصنيع للأسنان التي تتبعها مجموعة (شارب) (في كلية الملك بجامعة لندن).

 إنتاج الأسنان من نقطة الانطلاق

بدلاً من محاولة بناء أسنان بالغة من خلاياها الأساسية المكونة، فإن أحدنا (شارب) يتابع استراتيجية مبنية على محاكاة العمليات الطبيعية لتطور السن الجنينية والتي وصفناها سابقاً. ومن حيث الجوهر، فإن هذه الطريقة تتطلب فهم المبادئ الأساسية التي تتحكم في المراحل المبكرة لتشكل السن وتتطلب أيضاً تأمين مصدر للخلايا لتقوم بدور الظهارة الفموية الجنينية والمزنشيم الجنيني.

وحتى تاريخه قامت مجموعة (شارب) بإجراء التجارب بصفة أساسية على خلايا الفأر، باستخدام كل من الخلايا الجذعية والخلايا العادية، من مصادر جنينية وكذلك من مصادر بالغة، لاختبار قدرة مختلف أنواع الخلايا على تكوين الأسنان البديلة. في معظم الحالات بدأت المجموعة بتجميع الخلايا المزنشيمية في منبذة centrifuge حتى تشكل كتلة صغيرة مصمتة، ثم غطيت هذه الكرية بالظهارة ووضعت في مستنبت لعدة أيام، في حين جرى رصد النشاط الجيني في نسجها بحثاً عن دلائل على بدء نمو الأسنان. وبعد ذلك زرعت بُداءات الأسنان هذه داخل أجسام حيوانات عائلة في مواقع تؤمن تروية دموية مغذية مثل كلية فأر، حيث تُترك لتنمو لمدة 26 يوماً تقريباً.

في سياق هذه التجارب، شوهد تكون واضح للسن ولكن فقط عندما أتت الظهارة من مصدر جنيني واحتوت تجمعات الخلايا المزنشيمية على بعض الخلايا الجذعية على الأقل. فمثلاً عندما حلت خلايا جذعية من نقي عظام بالغ محل المزنشيم الفموي، أنتجت البُنى الأولية المزروعة أسناناً ذات بنية صحيحة. وهكذا يبدو أنه يمكن للخلايا الجذعية للبالغ أن تحل محل المزنشيم الجنيني لتكوين أسنان جديدة.

لسوء الحظ فإن سنوات عديدة من التجارب قد رسخت فكرة أن الظهارة الجنينية تحتوي على مجموعة فريدة من الإشارات اللازمة لتكون السن والتي تختفي من الفم بعد الولادة. وتستمر مجموعة (شارب) في البحث عن مجموعات من الخلايا البديلة قادرة على إعطاء النتائج المرجوة ويمكن اشتقاقها من مصدر بالغ. ولا تزال النتائج التي أنجزت باستخدام بداءات الأسنان المصنوعة من التركيبية المؤلفة من خلايا جذعية لبالغ وظهارة فموية جنينية مشجعة للغاية.

ومن الأمور المهمة أن هذه الأسنان كانت أيضاً ضمن المجال الطبيعي لحجم أسنان الفأر، وكانت محاطة بعظم ونسيج ضام جديدين، وأظهرت أبكر العلامات على تشكل الجذور. وكانت الخطوة القادمة هي معرفة ما إذا كان يمكن لمثل هذه الزروع أن تُشكل أسناناً في الفم، ذلك أن العظم والنسج الرخوة والأسنان تنمو مع بعضها في فم الجنين بدون ضغوط خارجية، مثل تلك الناتجة من المضغ والكلام، في حين أن فك البالغ يتعرض لحركات عنيفة ودائم الانشغال. ولم يكن هناك من يمكنه التنبؤ بما إذا كان فك البالغ سيؤمن الإشارات الضرورية للأسنان لكي تتكون وتدمج نفسها ضمن البيئة المحيطة مثلما تفعل في الجنين.

 

لم يكن ثمة من يمكنه التنبؤ بما إذا كان فك البالغ سيؤمن الإشارات اللازمة لتكون الأسنان.

لمعرفة ذلك قامت مجموعة (شارب) بقلع براعم سنية من فئران جنينية ثم زرعتها في أفواه فئران بالغة. أجريت شقوق صغيرة في النسج الرخوة للفك العلوي للفئران العائلة في منطقة الفَلج (الفُرْجة) diastema بين القواطع والأرحاء، حيث لا يوجد أسنان عادة. وتم إدخال بداءات الأسنان الجنينية bryonic tooth primordia في هذه الجيوب ووضع عليها لاصق جراحي. بعد ذلك خضعت الفئران لحمية غذائية لينة ووضعت الزرعات تحت المراقبة. بعد مضي ثلاثة أسابيع فقط كان بالإمكان تمييز أسنان بوضوح في منطقة الفلج، وقد تكونت بالاتجاه الصحيح وكانت بحجم مناسب بالنسبة إلى الفئران، وقد ارتبطت بالعظم بنسيج ضام رخو.

وبشكل لافت للنظر، يبدو أن فم البالغ يستطيع تأمين بيئة مناسبة لتشكل السن. وبذلك يتحقق أحد الإنجازات الثلاثة التي حدناها سابقاً على طريق تصنيع السن التعويضية. ومع ذلك ربما مازال الطريق نحو تصنيع السن التعويضية البشرية تكتنفه بعض الصعوبات.

 

نقطة التلاقى

مقارنة بالجهود المبذولة لتصنيع أعضاء أخرى، فإن تصنيع الأسنان قد تطور بشكل واضح في زمن قصير، ويبقى التحدي الكبير وهو تطوير طرق بسيطة ويمكن التحكم فيها.

أما الهدف الثاني من الأهداف الثلاثة التي حددناها سابقاً، وهو القدرة على التنبؤ المسبق والتحكم في حجم السن وشكلها فقد أضحى قريباً. فعند استنبات بداءات الأسنان يمكن التمييز بسهولة بين جرثومي (أرومتي) germs الرحى والسن القاطعة عن طريق شكلهما ونشاطهما الجيني على الرغم من أن التمييز بين الأشكال الأخرى المشاهدة في فم الإنسان كالضواحك والأنياب أكثر صعوبة.

إن الأسنان التي قامت مجموعة (شارب) بتكوينها انطلقاً من بداءات جنينية زرعت في أفواه فئران بالغة قد أظهرت أشكالاً تناسب موقعها الأصلي عند الجنين. فمثلاً نمت بداءات الرحى لتعطي سنا بشكل رحى، ذلك أن الإشارات التي تتحكم في شكل السن يتم تلقيها في المراحل المبكرة جداً من النمو الطبيعي للسن، ومن ثم تكون جرثومات (أرومات) الأسنان الجنينية قد تمت برمجتها بالفعل. إن مهندسي النسج بحاجة إلى فهم أفضل لهذه الإشارات البدئية التي تتحكم في الشكل من أجل تحريضها عند التصنيع الحيوي للأسنان في البشر.

حتى هذا اليوم، لم تتشكل جذور للأسنان المصنعة في أي من طرق هندسة النسج التي وصفناها. والحقيقة أن كلا من تطور الجذر والمنبهات التي تُبدئ بزوغ السن هما عمليتان معقدتان ولا يزال فهمنا لهما محدوداً. إن الجذور هي القسم الأخير الذي يتشكل من السن ويكتمل تشكلها خلال عملية البزوغ، وهناك حاجة إلى المزيد من الأبحاث لفهم الظروف التي تساعد على تشكلها في الأسنان التعويضية. والمجهول الآخر هو كم من الوقت ستحتاج الأسنان المصنعة عند الإنسان حتى يكتمل تشكلها في فم البالغ. إن الأسنان الدائمة عند الإنسان البالغ تبدأ أيضاً بالتشكل عند الجنين، ومع ذلك تحتاج إلى ست أو سبع سنوات حتى تبزغ، أو 20 سنة في حالة أضراس العقل. إن خبرتنا في تصنيع الأسنان حيوياً عند الحيوانات توحي بأن السن البشرية المصنعة سوف تتشكل أسرع بكثير، ولكن لا نعلم ما إذا كانت ستحتاج إلى وقت أطول حتى يكتمل نضجها ويتقسى ميناؤها بشكل كامل.

أما بالنسبة إلى الإنجاز الثالث، فمن الطبيعي أن معظم أبحاث التصنيع الحيوي للأسنان تسعى نحو إيجاد مصدر فعال ومتاح من خلايا المريض نفسه لتستخدم كمادة أولية، بهذه الطريقة نتجنب الرفض المناعي، ولما كان حجم السن وشكلها ولونها تحدد وراثياً فإن الأسنان المصنعة حيوياً ستكون مماثلة أكثر لأسنان المريض الطبيعية. وقد وجدت مجموعة (شارب) أن الخلايا الجذعية المزنشيمية من مصدر بالغ والمشتقة من نقي العظام (يمكن أيضاً أن تكون مشتقة من نسيج شحمي) يمكن أن تحل محل النسيج المزنشيمي الجنيني في عملية تكوين السن، ولا يزال إيجاد بديل للظهارة الجنينية واجباً، على الرغم من وجود مزاعم عن اكتشاف خلايا جذعية عند البالغ في نسج أخرى ذات منشأ ظهاري كالجلد والشعر، إن هذه الأنواع أو غيرها من خلايا البالغ قد تثبت فاعليتها، ربما بمساعدة منابلة الجينات gene manipulation بهدف تحريض الإشارات المناسبة البادئة لتكون السن.

ومن بين المصادر العديدة المحتملة للخلايا يمكن أن تكون الأسنان نفسها هي الأكثر ملاءمة، ذلك أن نتائج أبحاث مجموعة فورسايث توحي بأنه قد يوجد داخل السن خلايا جذعية قادرة على تشكيل نسج سنية بما فيها الميناء. وقد أظهر باحثون في أمكنة أخرى أيضاً أن العاج ونسجاً سنية أخرى يحدث فيها بعض التجديد الطبيعي بعد تعرضها لأذية ما، مما يدل على وجود خلايا سليفة قادرة على توليد تشكيلة من نسج السن.

ولهذا فمن الوارد أن نتمكن يوماً ما قريباً من صياغة أسنان جديدة من الأسنان القديمة.

* نقلاً عن مجلة العلوم/ المجلد 21 العدد 9

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/81-Number-XXIII/733-Configure-the-teeth-in-test-tubes