logo.png
ضوابط البحث في إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية
طباعة



  

د. رفعت السيد العوضى

 

أستاذ الاقتصاد ـ كلية التجارة ـ جامعة الأزهر

 يستهدف هذا البحث اقتراح ضوابط للتعرف على إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية، وفي البداية تلزم الإشارة إلى أن هذا الأمر مربوط بما قاله قديمًا العلماء الذين تكلموا عن الإعجاز القرآني، وبما قاله حديثًا العلماء الذي تكلموا عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في العلوم التجريبية.

قبل مناقشة الضوابط رأيت عرض موضوع له أهميته وهو إثبات أن القرآن الكريم وجه إلى الإعجاز في العلوم الاجتماعية. ولذلك تكون مهمة العلماء المسلمين هي الكشف عن هذا النوع من الإعجاز.

بناء على هذا التقديم فإن العناصر التي يتكون منها هذا البحث هي التالية:

أولاً : القرآن الكريم وجه إلى الإعجاز في العلوم الاجتماعية

ثانيًا: أهمية إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية.

 

ثالثًا: ضوابط الإعجاز التي قال بها علماء الدراسات القرآنية.

 

رابعًا: قواعد البحث في الإعجاز في العلوم التجريبية.

 

خامسًا: ضوابط مقترحة للبحث في الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية.

 

أولاً : القرآن الكريم وجه إلى الإعجاز العلمي في العلوم الاجتماعية

يقول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (فصلت: 53 ـ 54)

احتج بهاتين الآيتين علماء العلوم التجريبية الذين اهتموا بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم في المجالات التي تعمل عليها هذه العلوم.

معايشة الآيتين تكشف عن أن القرآن الكريم وجه إلى الإعجاز العلمي في الآفاق وإلى الإعجاز في النفس. وكلا الأمرين وهما الآفاق والأنفس يعملان على العلوم التجريبية وكذلك على العلوم الاجتماعية. قد تكون الآفاق أكثر ارتباطًا بالعلوم التجريبية وفي مقابل ذلك فإن الأنفس أكثر ارتباطًا بالعلوم الاجتماعية. بسبب هذه النوعية من الارتباط سوف أركز الحديث في هذه الآية على الإشارة التي يحملها قول الله ـ عز وجل ـ (وَفِي أَنفُسِهِمْ) إلى العلوم الاجتماعية.

وردت كلمة نفس، مفردة أو جمعًا في القرآن الكريم في (275) مائتين وخمس وسبعين موضعًا. يتبين من معايشة الآيات التي جاءت فيها هذه الكلمة (نفس و أنفس) أن المعنى الذي تعمل عليه في الغالب هو ما يدخل المجالات التي تعمل عليها العلوم الاجتماعية ومنها الاقتصاد والتربية وعلم النفس... من هذه المواضع

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ) (يونس: 54)

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف: 53)

(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)   (الرعد: 33)

(وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)    (السجدة: 13)

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى) (النازعات: 40)

(فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا)  (النساء: 4)

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)  (النساء: 79)

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) (الكهف: 6)

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) (الكهف: 28)

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: 207)

(وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 110)

(وَمَن يَكْسِبْ إثْمًا فَإنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء: 111)

(قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) (الأنعام: 104)

(فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) (يونس: 108)

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) (الكهف: 35)

(وَمَن تَزَكَّى فَإنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (فاطر: 18)

(فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) (الزمر: 41)

(وَمَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) (محمد: 38)

(فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (الفتح: 10)

(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف: 53)

(وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) (النساء: 128)

(وَإن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) (البقرة: 284)

(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا) (يوسف: 18)

(وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ) (فصلت: 31)

(فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) (النجم: 32)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) (البقرة: 265)

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الأنفال: 53)

(إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ) (التوبة: 55)

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) (الأنبياء: 102)

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: 53)

هذه بعض آيات القرآن الكريم التي جاءت بها كلمة نفس (مفردة أو جمعًا) والمعني القريب في هذه الآيات ينصرف إلى المجالات التي تعمل عليها العلوم الاجتماعية.

يقول الله عز وجل:

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (سورة الشمس)

 

الموضوعات التي تعمل عليها آيات هذه السورة تصنف في مجموعتين، المجموعة الأولى تتعلق بالآفاق، أما المجموعة الثانية فإنها تتعلق بالنفس. يمكن القول بأن المجموعة الأولى تشمل مجالات تعمل عليها العلوم التجريبية في مقابل أن المجموعة الثانية تشمل مجالات تعمل عليها العلوم الاجتماعية.

اقترح أن نعود إلى آيتي سورة فصلت التي يقول الله ـ عز وجل ـ فيها:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (فصلت: 53 ـ 54)

العلماء الذين آمنوا بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم في العلوم التجريبية رأوا في هاتين الآيتين توجيهًا إلى هذا النوع من الإعجاز.

استنادًا إلى الآيات التي استضأنا بها وخاصة آيات سورة الشمس تكون آيتا سورة فصلت توجهان إلى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في نوعي العلوم، التجريبية والاجتماعية.

يستنتج بناء على ذلك أن القرآن الكريم وجه إلى وجود الإعجاز العلمي في العلوم الاجتماعية في نفس الآيتين اللتين وجه فيهما إلى وجود الإعجاز العلمي في العلوم التجريبية.

 

ثانيًا: أهمية إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية:

1 ـ تصنف العلوم إلى مجموعتين: علوم اجتماعية وعلوم تجريبية. قد يقال علوم إنسانية وعلوم تجريبية، لكن هذا التصنيف الأخير يعترض عليه بأنه ليس من المقبول نزع وصف الإنسانية عن العلوم التجريبية. وعلى سبيل المثال كيف يقبل نزع وصف الإنسانية عن الطب. وبناء على ذلك يسلم القول بتصنيف العلوم إلى علوم اجتماعية وعلوم تجريبية.

 

2 ـ كلا النوعين من العلوم له مجاله الذي يعمل فيه. فيما يختص بالعلوم الاجتماعية فإن مجالها الإنسان من حيث تفسير سلوكه، وتحديد احتياجاته ورغباته، والبناء الاجتماعي الذي يتفاعل فيه، وتطوره الاجتماعي. هذا التحديد في إطار المنهج الوضعي، أما إذا أخذنا في الاعتبار المنهج المعياري فإنه تدخل عناصر أخرى في المجالات التي تعمل عليها العلوم الاجتماعية.

العلوم التجريبية لها مجالها الذي تعمل عليه، إنه يدخل فيها ما يخضع للتجريبية المعملية. من أمثلتها علم الفيزياء وعلم الكيمياء وعلم الأحياء وعلم النبات.

 

3 ـ بسبب طبيعة المجال الذي يعمل عليه نوعا العلوم، أو بسبب اختلاف طبيعة هذا المجال فإنه يعتقد أن العلوم التجريبية فيها حقائق ثابتة، أو فيها قوانين، بينما طبيعة العلوم الاجتماعية وحيث لا توجد تجربة معملية فإنه لا توجد بها حقائق ثابتة أو قوانين.

 

4 ـ التحيز من القضايا المثارة ضد العلوم الاجتماعية. (وجوهر مفهوم التحيز هو التمحور أو التمركز حول (الذات) والانغلاق فيها ورؤية (الآخر) من خلالها وقياسًا عليها، مما يعني نفي الآخر نفيًا  كاملاً  خارج إطار التاريخ أو الوجود أو العلم، والسعي نحو استبدال ماهيته أو هويته وإحلالها بمحتوى يتفق ومعطيات (الذات) وأهدافها، وذلك بالقضاء على تفرده وخصوصيته وإعادة إدماجه في النسق الذي ترى (الذات) المتميزة أنه الأمثل طبقًا  لمنظورها للإنسان والكون والحياة أو نسقها الفكري وعقيدتها ومثلها العليا)(1).

 

5 ـ المحدودية من القضايا المثارة ضد العلوم الاجتماعية. وتعني المحدودية (إن أي إنتاج علمي وضعي منطلق من العقل والواقع البشري ومؤسس عليهما ومحدود بحدودهما لابد أن يُلبس بخصوصيات هذا العقل وذلك الواقع بدرجة أو بأخرى)(2).

 

6 ـ عدم الانضباط من القضايا المثارة ضد العلوم الاجتماعية. ويرجع ذلك إلى طبيعة الظواهر محل الدراسة. فظاهرة المجتمع الحي العاقل تختلف عن طبيعة المادة غير الحية وغير العاقلة، فالقوى الفاعلة في المجتمع الحي لا تخضع في ظروفها وفي قياس إمكانات دورها واتجاهها بوحدات نمطية ولا لعلاقات نمطية بين هذه الوحدات(3).

 

7 ـ التعارض بين النظريات الاجتماعية من القضايا المثارة ضد العلوم الاجتماعية. (يبلور هذا التعارض من خلال إبراز نوع العوامل التي تستند إليها كل نظرية في تفسير التغيرات الاجتماعية. بعض النظريات تعتبر الذكاء الإنساني عاملاً  حاسمًا  في إحداث التطور الاجتماعي بينما هذا الذكاء نفسه عند آخرين متغير تابع لعوامل أخرى، كالعامل الديني أو البيئي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.. وفي الوقت الذي يجعل فيها للمذهب النفسي من الفرد سببًا  وحيدًا  في إحداث كل تغيير اجتماعي وإنشاء كل ظاهرة اجتماعية ينمحي الفرد في المذهب الاجتماعي ويصبح خاضعًا  للقواعد الإلزامية التي تفرضها عليه الحياة الاجتماعية بشكل قسري)(4).

 

8 ـ في إطار الحديث عن الإعجاز القرآني فإن العناصر التي ذكرت سابقًا  عن العلوم الاجتماعية يمكن أن تعمل في اتجاهين:

الاتجاه الأول: وهو رفض الحديث عن الإعجاز القرآني في هذا النوع من العلوم لأنه ليس بها حقائق ثابتة وتعاني من المحدودية والتحيز والتعارض وغير ذلك مما سبق بيانه.

الاتجاه الثاني وهو قبول الحديث عن الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية. وهذا الاتجاه هو الذي يتبناه هذا البحث.

 

9 ـ هذا البحث لا يقف عند حد قبول إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية وإنما يبشر به ويدعو إليه ويدعو إلى الاهتمام به. بل إن هذا البحث يرى أن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم قسمة مشتركة بين العلوم التجريبية والعلوم الاجتماعية.

 

10 ـ تتعدد وتتنوع الأهداف والمزايا والفوائد التي تتحقق من إثبات الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية ومن التعريف به ومن قبوله، ومنها ما يلي:

 

أ ـ إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية يعود بهذه العلوم إلى الوحي. وهذا مطلب إسلامي. هذه العلوم كما تعرض في المنهج الوضعي خرجت على الوحي. وقد خسرت بهذا الخروج بل خسرت الإنسانية معها.

ب ـ الفكر المعاصر قولب هذه العلوم في المنهج الوضعي، وأحد شروط الإصلاح في هذه العلوم هو العودة بها إلى المنهج المعياري. الإعجاز القرآني في هذه العلوم هو الذي يعود بها إلى المعيارية.

ج ـ تعاني العلوم الاجتماعية من التحيز ومن التعارض ومن المحدودية ومن غير ذلك من أشكال القصور. الإعجاز القرآني وهو يعود بهذه العلوم إلى الوحي فإنه يعالجها من كل أشكال القصور.

د ـ استورد العالم الإسلامي هذه العلوم بمنهجها ضمن الأشياء التي استوردها من العالم الغربي، بينما هذه العلوم كما يعرضها الغرب بنظرياتها منحازة ضد المسلم وضد ثقافته. إثبات الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية والتعريف به وقبوله من الوسائل الرئيسية لأسلمة هذه العلوم على الأقل في ديارنا الإسلامية.

هـ ـ إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية سوف يرقى بها إلى الشمولية الكلية وبهذا يخلص هذه العلوم من النظرات الأحادية والجزئية التي عانت منها مع المنهج الوضعي.

و ـ إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية هو خير مرشد للإنسان لمعرفة ما هو ثابت في المجالات التي تعمل عليها هذه العلوم فيقبله (المعيارية) وما هو متغير فيكون مجال عمله ويعمل عليه (الوضعية).

 

ثالثًا : ضوابط الإعجاز التي قال بها علماء الدراسات القرآنية

دراسات الإعجاز القرآني منذ أن بدأت أخضعها العلماء المسلمون لضوابط معينة، ولقيت هذه الضوابط اهتمامًا  من كل الباحثين في هذا الفرع من الدراسات القرآنية. أهم ضوابط الإعجاز التي قال بها علماء الدراسات القرآنية هي التالية:

أن يكون صحيحًا  من ناحية العلوم العربية وحقًا  من جهة الأصول الدينية ومقبولاً  من الناحية البلاغية.

 

رابعًا : قواعد البحث في الإعجاز العلمي التي قال بها علماء العلوم التجريبية

عندما بدأ البحث في الإعجاز القرآني في العلوم التجريبية فإن علماء هذا التخصص اهتموا بموضوع قواعد البحث وأهم ما قالوه في هذا الموضوع(5):

1 ـ علم الله هو العلم الشامل المحيط الذي لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص. وعلم الإنسان محدود يقبل الازدياد ومعرض للخطأ.

2 ـ هناك نصوص من الوحي قطعية الدلالة كما أن هنالك حقائق علمية كونية قطعية.

3 ـ في الوحي نصوص ظنية في دلالتها وفي العلم نظريات ظنية في ثبوتها.

4 ـ لا يمكن أن يقع صدام بين قطعي من الوحي وقطعي من العلم التجريبي. فإن وقع في الظاهر فلابد أن هناك خللا في اعتبار قطعية العلم التجريبية.

5 ـ عندما يري الله عباده آية من آياته في الآفاق أو في الأنفس مصدقة لآية في كتابه أو حديث من أحاديث رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتضح المعنى ويكتمل التوافق ويستقر التفسير وتتحدد دلالات الألفاظ بما كشف من حقائق علمية وهذا هو الإعجاز.

6 ـ إن نصوص الوحي قد نزلت بألفاظ جامعة تحيط بكل المعاني الصحيحة في مواضيعها التي قد تتابع في ظهورها جيلاً  بعد جيل.

7 ـ إذا وقع تعارض بين دلالة قطعية للنص وبين نظرية علمية رفضت هذه النظرية لأن النص وحي من الذي أحاط بكل شيء علما، وإذا وقع التوافق بينهما تقبل النظرية كوجه من أوجه التفسير العلمي. وإذا كان النص ظنيًا  والحقيقة العلمية قطعية وأمكن التأويل بضوابطه قبل.

8 ـ إذا وقع التعارض بين حقيقة علمية قطعية وبين حديث ظني في ثبوته فيؤول الظني من الحديث ليتفق مع الحقيقة القطعية، وحيث لا يوجد مجال للتوفيق نتوقف.

 

خامسًا : ضوابط مقترحة للبحث في الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية

إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية فرع جديد في فروع الإعجاز القرآني يجب أن يخضع لضوابط ويلتزم بها الباحثون الذين يعملون في هذا النوع من الإعجاز.

البحث عن ضوابط للإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية يجب أن يكون مربوطًا  مع كل الدراسات السابقة عن هذا الموضوع. هذا أمر مسلم به ويحال على وجه الخصوص إلى الدراسات الحديثة عن قواعد البحث في الإعجاز العلمي التي اتفق عليها الباحثون في العلوم التجريبية والتي سبق ذكرها. والتحفظ الذي يرد هو أن بعض هذه القواعد قد يكون لها خصوصيتها بالعلوم التجريبية، ولذلك يؤخذ هذا في الاعتبار.

هذا التمهيد السابق يتيح التقدم لعرض ضوابط الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية التي يقترحها البحث وهي الضوابط التالية:

1 ـ أن يكون الإعجاز الذي يستنتج صحيحًا  من ناحية العلوم العربية وحقًا  من جهة الأصول الدينية ومقبولاً  من الناحية البلاغية.

2 ـ لا يستهدف البحث عن التطابق بين النظريات التي قال بها علماء العلوم الاجتماعية وما جاء في القرآن الكريم، وإنما المستهدف إخضاع البحث في العلوم الاجتماعية لما جاء في القرآن الكريم. هذا الضابط أو هذه القاعدة ترد على الاعتراض الذي يمكن أن يرد من أن العلوم الاجتماعية ليس بها حقائق على النحو الذي يوجد في العلوم التجريبية.

3 ـ الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية يجب أن يخضع بيقين للضابط التالي: الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو خالق الإنسان وهو سبحانه القادر على الكشف عن سلوكياته والسنن التي تحكمها. وهذه السلوكيات هي المجالات التي تعمل عليها العلوم الاجتماعية وتصوغها في قوانين ونظريات، لذلك يكون ما جاء في القرآن الكريم عن هذه السلوكيات بمثابة حقائق أو هي حقائق، وفي ضوء ذلك تنظر العلوم الاجتماعية بقوانينها ونظرياتها.

4 ـ البحث في الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية ينطلق من المسلمة التالية: يؤسس القرآن الكريم النموذج الأمثل للحياة الاجتماعية بكل عناصرها، اقتصاد وإدارة وسياسة وتربية.... ولذلك فإنه عندما تعمل الحياة الاجتماعية وفق النموذج القرآني تتطابق القوانين والنظريات التي يقول بها علماء العلوم الاجتماعية مع ما جاء في القرآن الكريم.

5 ـ يقال إنه لا توجد حقائق قطعية الثبوت في العلوم الاجتماعية ـ هذا القول سببه قصور في إدراك الإنسان لاكتشاف العوامل التي تحدد سلوكيات الإنسان. هذا القصور ليس واردًا  على ما جاء في القرآن الكريم. يعني ذلك أن البحث في الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية ينطلق من مسلمة هي أن العلوم الاجتماعية بها حقائق وأن القرآن الكريم هو الذي يكشفها. ويترتب على ذلك أن دراسات الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية سوف ترقى بهذه العلوم بحيث تصبح فيها حقائق ثابتة.

6 ـ أخبر القرآن الكريم في كثير من آياته عن السنن الإلهية، وهذه السنن ليست قاصرة على المجالات الكونية وإنما تشمل ما يتعلق بالإنسان من كل جوانبه الاقتصادية والإدارية والتربوية والسياسية وغيرها. هذه السنن مرشدة للإنسان إلى وجود قوانين علمية في المجالات الاجتماعية، وبجانب ذلك فإنها موجهة إلى المجالات التي يمكن أن توجد فيها حقائق تحكمها سنن إلهية أو تصاغ في قوانين علمية.

 

الهوامش

(1) د.نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية، ضمن بحوث إشكالية التحيز ـ رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، محور العلوم الاجتماعية ـ المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1418هـ ـ 1998م، ص 178.

(2) المرجع السابق، ص 177.

(3) عادل حسين، التحيز في المدارس الاجتماعية الغربية ـ تراثنا هو المنطلق للتنمية، منشور في إشكالية التحيز ـ رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، محور العلوم الاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1418هــ،1998م، ص 106.

(4) محمد محمد ازمان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1412هـ ، 1991م، ص 115.

(5) الشيخ عبدالمجيد الزنداني، أ.د سعاد يلدرم  والشيخ محمد الأمين ولد محمد، تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة، 1421هـ ص 34 ـ 36 ـ 72.

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/79-Number-twenty-one/672-Find-controls-in-the-miracle-of-the-Quran-in-the-social-sciences