logo.png
لنبحـث عن روح العلوم قبـل أجسـادها!
طباعة



خالد بن حمزة مدني 

  يا لبلادة فرعون عندما قتل أبناء بني إسرائيل! لقد كان بإمكانه أن ينال المجد العريض والثناء العاطر بدلاً من العار وسوء الأحدوثة في التاريخ، وينفذ ـ مع ذلك ــ قراره في إنهاء الوجود الحقيقي لبني إسرائيل! لقد كان ذلك ممكنا لو اتيح له سماع نصيحة المفكر الهندي أكبر الإله آبادي، فأنشأ لهؤلاء مدارس تربيهم على المنهج الفرعوني، وتصوغ عقولهم في ضونه!

كان التاريخ سيذكره على أنه باني المدارس ومؤسس المعاهد وناشر العلم، ولن يكون هناك سوى القليل ممن يذكر محتوى ما فرض تدريسه في هذه المدارس، فالناس كثيرًا ما ينظرون إلى الأشكال والمظاهر، وتخفى عليهم الحقائق. إنهم يبصرون أجساد العلوم ويغفلون عن روحها.

و(العلم) بطبيعته لفظ له بريق يخطف الأبصار ويذهل العقول، لذلك يتقبل الناس كثيرًا من الأفكار والنظريات ـ وإن كانت تخالف ما يعتقدون ـ إذا صبغت بطابع العلم، ولذلك كان هيجل الفيلسوف المشهور يقول: (إن التعليم هو أعظم الأعمال تأثيرًا في المجتمعات)، مع أن المعرفة العلمية ما هي إلا صناعة الإنسان، وليست بالضرورة أوضح تمثيل، بل هي رهن البيئة الفكرية التي تولدت بها، وهي أداتها في الوقت نفسه.


ونخطئ حين نظن أن العلم ما هو إلا حقائق محايدة نتجت عن موضوعية متجردة من الأهواء والأغراض الذاتية، فالعالم هو ابن بيئته ومجتمعه، ورضيع لغته وثقافته، وهو فيما بين ذلك حامل لآماله وطموحاته، مثقل بمخاوفه وأهوائه. وما أصدق مقوله الفيلسوف البريطاني فيتجنشتين: (إنك ترى ما تريد أن تراه).

إن الإطار الفلسفي أو الصورة الكلية Gestalt هو ما يتحكم في كافة مدركات الإنسان وأعماله، وهو الذي يؤسس القيم، ويضفي المعاني، ويحدد السلوك ومبادئ الأخلاق والأهداف وحدود الغرض من الحياة. انه يسبق كل منهج يمكن أن تقوم عليه أي نظرية.


وما قبل المنهج هذا ـ كما يسميه محمود شاكر ـ هو أصل أصيل في كل أمة، وفي كل لغة، وفي كل لسان، وفي كل ثقافة حازها البشر على اختلاف السنتهم وألوانهم ومللهم وأوطانهم، هو بلا ريب أصل أصيل في العلوم البحته كما نسميها اليوم، كالحاسب والجبر والكيمياء، كما هو أصل أصيل في آداب اللسان كالأدب والتاريخ وعلوم الدين وعلم الفلسفة. ولا يمكننا الجدال في أن الغرب اليوم قد أمسك بزمام الريادة في العلوم التجريبية والإنسانية، وأن العلم الحديث وفلسفته على السواء قد اتخذا من الحضارة الغربية مسرحًا وموطنًا. واعترافنا بذلك يعني ـ فيما يعني ـ أنه يجب أن يكون لهذا الاعتراف أثر في تعاملنا مع النظريات العلمية التي نتلقاها منه، ودراستنا لها، وتقييمنا لأطروحاتها، ومن ثم قبولها أو رفضها.


إنه لمن الضروري لنا ونحن نتلقى هذا السيل المتلاطم من النظريات العلمية التي تتناول كافة جوانب الحياة وتدرسها، وتضع التصورات والمناهج في التعامل معها أن نستكنه روحها، وننظر إلى دواخلها لا إلى مظاهرها فحسب. إن لكل نظرية علمية قائمة فلسفة تبنى عليها، وهذه الفلسفة هي روحها التي تسري فيها كما يسري الماء في العود الأخضر، وهي وإن لم تكن ظاهرة في سطورها، فإنها تبرز من بين هذه السطور.

إن من المتفق عليه أن التاريخ الإغريقي يمثل التاريخ العلمي للحضارة الغربية، كما يمثل التاريخ الروماني تاريخها السلطوي. وقد لاحظت من خلال دراستي الأكاديمية في أحد فروع العلم الحديث التجريبية ـ وهي الصيدلة ـ أن كثيرًا من الرموز التي درسناها لها ارتباط بهذا التاريخ. وليس ذلك مقتصرًا على الرموز فحسب، بل إن الأسماء العلمية للأمرض والنباتات الطبية، وكثيرًا من المصطلحات الطبية هي باللغة الإغريقية، وليست بالإنجليزية كما يظن البعض، مما يدل على عمق تأثير هذه الثقافة في جوانب العلم الحديث حتى التطبيقية منها.


وحين يُذكر التاريخ الإغريقي، فإنها تذكر معه كل رموزه الدينية الوثنية، لا سيما ذلك الموقف الأسطوري العدائي بين يروميثيوس سارق النار المقدسة ـ التي تشير على العلم ـ والإنسان من جهة، وبين زيوس كبير آلهة الإغريق الوثنية من جهة أخرى. إنه موقف يمثل تسلط كبير الآلهة ورغبته في احتكار العلم لنفسه، وإبقاء البشرية في جهالتها ليمكنه السيطرة عليها، وثورة الإنسان بالمقابل، ورغبته في الانعتاق من هذه الهيمنة، وفي هذا المعنى يقول جوليان هكسلي: (كان الإنسان يخضع لله بسبب الجهل والعجز، أما بعد أن تعلم وسيطر على البيئة، فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ويصبح هو الله!!). وثمة جانب آخر يؤثر في نظريات العلم الحديث، وهي روح رد الفعل الذي قام ضد الدين النصراني المحرف والسطوة الكهنوتية للكنيسة، فقد صار لزاما على العالم الطبيعي ـ إذا أراد أن يعتبر من العلماء الذين يؤخذ بآرائهم في تخصصه ـ أن يفسر الظواهر الكونية بأسباب من داخل هذا الكون، أي بأسباب طبيعية لا دخل فيها للإدارة الإلهية، وأن يبدأ بهذا الافتراض عند دراسته لأي ظاهرة، ثم يبني عليه مشاهداته ونظرياته. وبذلك، فإن كل عبارة تنطوي على دعوى تخالف في ظاهرها هذا التصور، فأما أن يحكم ببطلانها، أو يعيد تفسيرها ليجد لها مكانًا داخل هذا الإطار الإلحادي، فأصبح التفسير العلمي للظواهر الكونية بالضرورة تفسيرًا إلحاديٌّا. بل إن بعض علماء الغرب في العصر الحديث قد جعلوا من مهامهم أن يخلقوا دينًا جديدًا للبشرية، لأن العلم كما يقول تندل أصبح قادرًا على معالجة كل مشكلات الإنسان الأساسية. وفي ضوء هذه الحقائق، نتساءل عن موقعنا نحن المسلمين في خضم هذه النظريات العديدة في السياسة والإعلام والتربية والاقتصاد، وفي الطب والفيزياء والأحياء؟!


لقد وقفنا في أحد موقعين إما الذوبان الظاهر أو الباطن، فقوة الصدمة الحضارية ألغت من أذهان بعض المســــلمين جميع ما كان فيها من قيم ومبادئ، وفرغت عقولهم من كل أصول وثوابت، فغدوا أتباع كل ناعق، لا يرون لهذه الأمـــة عـــزة وتمكينًا إلا باتباع مبادئ الغرب واعتناق نظرته للحياة، وغدا الإسلام عندهم يكتشف شرعيته بقدر قربة من معايير الغرب التي أصبحت رديفًا للعالمية، وصار قصارى ما يحلمون به أن تكون بلادنا الإسلامية قطعة منأوروبا في فكرها وثقافتها وسياستها واجتماعها واقتصادها وشأنها كله.


وكان البعض أفضل حالاً في الظاهر، وإن كان ربما أسوأ أثرًا في الأمة من الأول، فهو باقٍ على مظهره الإسلامي وكثير من قناعاته الأصيلة، ولكنه ينزع هذه القناعات والمبادئ فور دخوله مجال البحث في شؤون الحياة المختلفة من خلال تخصصه العلمي الدقيق، أو يسعى لإلباس النظريات الغربية التي درسها ثوبًا شرعيٌّا ليس لها من خلال التعسف في الاستدلال عليها بالنصوص الشرعية أو السيرة النبوية.


ولعل من الأمثلة الشهيرة على ذلك الإمام الجليل حجة الإسلام الغزالي رحمه الله الذي نشر في الأمة ـ دون سوء قصد ـ كثيرًا من الآراء الفلسفية، مع أنه كان من أشد العلماء وطأة على الفلاسفة، وتمكن من نقض مذهبهم بردوده المحكمة في (التهافت)، ولكنه كان قد تأثر بالكثير من أقوالهم وآرائهم، فقبلتها منه الأمة، لأنها كانت تثق بالغزالي وتدينه، بينما لو أتى بها الفلاسفة لما تأثر بها سوى القليل. وإزاء هذين الموقفين، فإن علينا السعي لنقف الموقف الصحيح الذي يتيح لنا التفاعل الإيجابي مع هذه النظريات، والإفادة من صوابها، وتلافي فلسفاتها وخلفياتها العقدية والفكرية.

إن من اتكل على زاد غيره طال جوعه، وديننا وتراثنا مليئان بكنوز نفيسة لم تنل حظها من البحث والتنقيب، وقرآننا مليء بالبحث على طلب العلم والاستزادة منة، حتى إن كلمة (علم) بتصريفاتها وردت في أكثر من (750) آية، فلماذا نظل في انتظار در الأرانب من الغرب والشرق، ونرضى بما يتكرمون بمنحنا إياه من فتات موائدهم، أو مما لا يرون لحصولنا عليه جانبًا من الخطورة عليهم. لقد وجد العلماء المهتمون بدراسة جوانب الإعجاز العلمي في نصوص الكتاب والسنة كثيرًا من الحقائق العلمية التي لم يتوصل لها العلماء في الغرب إلا قبل عدد قليل من السنوات، وبعد الحصول على أشد الأجهزة تعقيدًا وأكثرها دقة.  وليتنا ندعم البحوث في هذا المجال، لنملك نحن زمام المبادرة، ونتوصل إلى الحقائق العلمية التي ذكرت في الكتاب والسنة بدلاً من الاستدلال عليها من بحوث غيرنا.


إن التراث هو الهوية الثقافية للأمة. والإنتاج الفكري لعلمائنا ومفكرينا السالفين بحاجة لدراسة وتنقيب، فثمة العديد من النظريات التربوية والنفسية والاجتماعية في كتابات ابن القيم وابن خلدون، وهناك الكثير من النظريات السياسية والاقتصادية في آثار الماوردي والفراء وابن سلام، وسنجد العديد من النظريات الأدبية واللغوية في مؤلفات الجاحظ والجرجاني. وما أحوجنا لربط أجيالنا الجديدة بتراثها، والسعي لتقريبه له بالاختيار الواعي، والتلخيص المشوق، والاستدلال اللطيف، وما أحرانا بالسعي في نشره من خلال طبعات معقولة السعر، جذابة الإخراج.

لقد كان لأسلافنا فضل السبق في كثير من العلوم، وينبغي علينا أن نفيد من هذا السبق، لا أن نستمر في التعامل معه كقصيدة مدح وفخر تلهينا عن المكارم كما ألهت بني تغلب قصيدة عمرو بن كلثوم. ولئن كان للقديم فضل السبق، فإن اللاحق له فضل الكمال، وقد أتيح لنا في زماننا من الوسائل والمعطيات ما لم يتح لهم مثله.


إن كثيرًا ممن تأثر بالغرب يتهم دعاة إحياء التراث بالرجعية والماضوية، ولا يتهم أساتذته بذلك مع أنه يراهم يستدلون في أحدث نظرياتهم بسقراط الفلسفة وأبو قراط الطب وفيثاغورس الهندسة. والمتأمل في سير علماء الغرب الكبار، يلحظ عمق معرفتهم بالفلسفة اليونانية وتأثرهم بها، ويجد كثيرًا من تعبيراتهم ومصطلحاتهم وثيقة الصلة بتاريخهم.

ولابد لنا ـ إذا أردنا لهذه العلوم أن تستوطن في بلادنا ـ من أن نبني طلابنا بناء علميٌّا راسخًا من الناحية الشرعية، ونربطهم بتراثنا العلمي الذي تركه علماؤنا في كافة العلوم، ولاسيما العلوم الإنسانية التي تظهر فيها صبغة الثقافة المحلية أكثر من غيرها، فالأمة لا يمكن أن تنهض إلا إذا وجد فيها رجال يجمعون بين المعرفة الجيدة بالكتاب والسنة وأقوال السلف وتاريخ الأمة، وبين العلوم التي يتخصصون فيها. ورجال من هذه النوع هم الذين يجعلون لهذه العلوم جذورًا في تاريخ الأمة وفكرها وثقافتها.


ومع ذلك، فإننا لسنا بمعزل عن الأمم الأخرى، والإسلام لا يمنعنا الاستفادة من الحقائق العلمية التي تم التوصل إليها في أي مجال، ولكن لنحرص عند دراستنا للإنتاج الفكري لغيرنا على تأصيله إسلاميٌّا بتنقيته من شوائب التصورات المادية الإلحادية وسائر التصورات المخالفة للإسلام، وتغيير إطاره الإلحادي إلى إطار توحيدي، واعتبار الوحي مصدرًا من مصادر الحقيقة، وما يلزم من ذلك من إدخال كل ما أثبته القرآن وصحيح السنة في مضمون العلم. كل حقيقة بحسب العلم المناسب لها.


إننا بحاجة للسعي نحو الأصالة في كل ما نعالج من مشكلات، وما نضع من أولويات، بقدر حاجتنا لاطراح النظريات التي لم يثبتها الواقع، أو تلك التي تخالف حقائق قررها الإسلام، ويمكن أن ندرسها للنقد العلمي، وتوضيح الصواب ـ ونحن بحاجة أكثر إلحاحًا إلى صياغة العلوم كلها: طبيعيها، وإنسانيها بلغة عربية فصيحة، حتى تكون اللغة العربية لغة العلوم كما هي لغة الدين والأدب، وبذلك فإننا نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح لتحقيق النهضة والرفعة لهذه الأمة، وأحيينا فيها الروح الحقيقية للعلم الأصيل، ولنتذكر دائمًا مقولة شاعر الهند ومفكرها محمد إقبال: (إياك أن تكون آمنا من العلم الذي تدرسه، فإنه يستطيع أن يقتل أمة بأسرها)!


المراجع:

          أكرم العمري: التراث والمعاصرة.

          جعفر إدريس: إسلامية العلوم وموضوعيتها (مقال بمجلة المسلم المعاصر ـ ع 50) الغزو الثقافي على واقع الأمة (أوراق عمل بمؤتمرات إسلامية).

          جيمس بيرك: عندما تغير العالم.

          عبدالرحمن الزنيدي: السلفية وقضايا العصر.

          محمد قطب: العلمانية.

          محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.
 

 

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/75-Issue-XVII/750-To-look-for-the-spirit-of-science-before-their-bodies