logo.png
المنهج الإسلامي والتفكير العلمي
طباعة







 
          

المنهج الإسلامي والتفكير العلمي

د. أحمد رشاد حسنين

باحث وموجه بالتربية والتعليم ــ مصر

 إن شمولية المنهج الإسلامي ومنطقية عقيدته بدعوته ـ أن تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعقل البشري مناقشة وبحثًا وتمحيصًا من خلال كل ما يقع في محيطه من ظواهر وموجودات، ولعل طبيعة الإسلام في دعوته هذه جعلته بالضرورة يرسي قواعد ثابتة هي في حقيقتها (
خصائص النظر العلمي
) ومنها:

1 ـ   دعوة القرآن إلى التفكير والتدبر والبحث في مظاهر الخلق والموجودات في السماء والأرض، ووضوح هذه الدعوة بصورة مكثفة في القرآن ـ دفعت بعض الباحثين إلى اعتبار (
التفكير فريضة إسلامية
).

2 ـ   التعويل على دور اليقينية العلمية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بمنهج التجربة ذات البرهان الحسي.

3 ـ   وحدة الإنسان مع محيطه وفي واقعه.

4 ـ   تساوي الوحدات النوعية للأشياء في الأهمية واليقينية العلمية.

ولم يكتف المنهج الإسلامي بهذا بل فرض ودعا إلى تهيئة المناخ لانطلاق العقل البشري وإزالة كل العوائق أمام التقدم العلمي وغيره من صور التقدم الإنساني، ونذكر من ذلك:

1 ـ   تحرير الإنسان من كافة أشكال العبودية.

2 ـ   الدعوة إلى طلب العلم والحث عليه.

3 ـ   بيان فضل العلم والعلماء وإعلاء منزلتهم.

4 ـ   التحذير من كافة أشكال الخيانة العلمية سواء بالكتمان والإخفاء، أو التشويه: بالتدليس والتزوير والقطع، أو بالادّعاء مما ليس من العلم.

لقد كان التعامل مع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُولَى ممارسات العقل الإسلامي في مجال الفكر، ووضع أُولى لَبِنَات حضارته وأفضى ذلك إلى تحقيق نتائج باهرة نذكر منها عدة ظواهر:

        ظاهرة التدوين العلمي.

        ظاهرة زخم وثراء المعطيات القرآنية والسنة النبوية.

        تعدد مناهج البحث بتعدد علوم القرآن والسنة.

        تطبيق بعض مناهج هذه العلوم في ميدان العلم التجريبي كمنهاج التبويب والتصنيف والجرح والتعديل.. إلخ.

        تنقية التراث الإنساني وصهر إيجابياته في بوتقة الفكر الإسلامي العلمي المستنير.

لقد كان التراث الإنساني قبل الإسلام لا يعدو أن يكون واحدًا مما يأتي:

        ديانات سماوية انحرفت ـ ديانات وضعية شوهاء انتهت إلى عبادة بشر لبشر، أو لصور بشر، أو لأوثان شتى.

        علوم فلسفية يونانية ذات معطيات مجردة.

        علوم طبيعية تعاني من الوهن والتعثر.

جاء الفكر الإسلامي بخصائصه يقتحم هذا التراث الموجود ويقضي على كل خرافات ومظالم العالم القديم، ومن ثم أخذ هذا النظام القديم يتحلل وينهار من داخله.

لقد كان من الطبيعي في ظل منهج يحمل خصائص شاملة وراسخة علمية (
المنهج القرآني
) ويهيئ مناخًا علميٌّا صحيٌّا ـ أن تتتابع الكشوف العلمية لقوانين الكيمياء والطبيعة والرياضيات والطب والفلك، وذلك على أيدي علماء المسلمين (
ابن الهيثم، جابر بن حيان، ابن سينا، الرازي، ابن النفيس، النباتي، الخوارزمي..
) وانفسح المجال إذن في نطاق القواعد الصحيحة للنظر العلمي المقتبسة من الفكر الإسلامي أن ينطلق هذا الفكر يبني حضارة جديدة حافلة بالإنجازات والكشوف العلمية (
الحضارة العلمية والإسلامية
) وبفضل إنجازات هذه الحضارة في العصور الوسطى استطاع أن يخرج من عصوره الوسيطة المظلمة إلى عصر النهضة فعصر الثورة الصناعية، وبذلك وضع خطواته على أبواب عصرنا (
عصر العلم والتكنولوجيا
) وهذا باعتراف المنصفين من علماء الغرب ومستشرقيه؛ يقول الأستاذ Briggault في كتابه (
Making of Humanity
): (
إن مناقشات عدة تقوم حول واضعي المنهج التجريبي وإن هذه المناقشات تعود في آخر الأمر إلى تصوير فاسد محرف لمصادر الحضارة الأوروبية. أما مصدر الحضارة الأوربية الحق فهو منهج العرب التجريبي، وقد انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون وتعلمه الناس في أوروبا يحدوهم إلى هذا رغبة ملحّة
). ثم يذكر أنه ليست هناك وجهة من وجهات العلم الأوروبي لم يكن للثقافة الإسلامية تأثير أساسي عليها، ولكن أهم أثر للثقافة الإسلامية في العلم الأوروبي هو تأثيره في (
العلم الطبيعي والروح العلمية
) وهما القوتان المميزتان للعلم الحديث والمصدران الساميان لازدهاره، (
إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافهم لنظريات مبتكرة غير ساكنة. إن العلم يدين للثقافة العربية بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده. وقد كان العالم القديم ـ كما رأيناه ـ عالم ما قبل العلم.

إن علم النجوم ورياضيات اليونان كانت عناصر أجنبية لم تجد لها مكانًا ملائمًا في الثقافة اليونانية. لقد أبدع اليونان وعمموا الأحكام، ولكن طرق البحث وجمع المعرفة الوضعية وتركيزها ومناهج العلم الدقيقة والملاحظة المفصلة العميقة والبحث التجريبي كانت كلها غريبة عن المزاج اليوناني، إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوروبا كنتيجة لروح جديدة في البحث وطرق جديدة في الاستقصاء؛ طريق التجربة والملاحظة والقياس ولتطور الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي، المسلمون إذن هم مصدر هذه الحضارة الأوروبية القائمة على المنهج التجريبي
)(
1
).

العلم في دائرة الدين:

حدد القرآن الكريم المصدر الأول للمنهج الإسلامي ـ للعلم أبعادًا ثلاثة:

        علم الله المختص به.

        علم يكشفه الله لأنبيائه.

        علم يعطيه الله للبشر كافة وهو العلم المادي(
2
).

ويترتب على هذه المقدمة نتيجة وهي: بما أن العلم مصدره الله إذن فلابد أن يلتقي والإيمان عند نقطة واحدة: ... بل إن الأمر يتعدى الغاية الواحدة إلى اتباع كل من العلم والدين وسيلة واحدة. فإذا كانت وسيلة العلم تناول (
حقائق غير معلومة بواسطة حقائق معلومة
) فإن تلك الوسيلة هي (
إحدى
) وسائل الدين أيضًا. فعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من (
الحقائق الملحوظة
) فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي، وبعبارة أدق ضرورة (
فكرة اعتقادية يقينية
) تقوم بتفسير الملاحظات وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرًا كاملاً عُدَّت (
حقيقة علمية
) رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي تقرنها بالمشاهدة، معنى ذلك أن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره ومن أمثلة ذلك (
حقيقة الذرة إنها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف، ولكنها تعد أكبر حقيقة علمية في عصرنا
)، (
إن أي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو دون الاعتماد على ألفاظ مثل: القوة، الطاقة، الكهربية، المغناطيسية.. إلخ وهو لا يدري كنه هذه الأشياء.. إذن فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة لكي يبين عن علل غير معلومة. إن ذلك لا يمكن إلا أن يكون (
إيمان بالغيب
) وهو نفسه جوهر (
العقيدة الدينية
)، فهذا الغيب اليقيني إنما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء)(
3
).

ولعل من نافلة القول أن نذكّر بأن قضية التقاء الدين بالعلم قد فاض فيها البحث وكثرت بشأنها البراهين من قبل كثير من الباحثين والعلماء ومفكري الأديان من الشرق والغرب وقد ذكروا ما يصعب حصره من الحقائق العلمية التي تدور في دائرة الدين، وتردّ في نفس الوقت على مزاعم ودعاوى كل أصحاب الاتجاهات اللادينية، وفي هذا الإطار أبرز الباحثون والعلماء المسلمون قضية إعجاز الإشارات القرآنية، وصحح بعضهم طريقة السير في هذا الاتجاه وما ينطوي عليه من مخاطر حينما أكدوا أن آيات القرآن وخاصة الكونية منها إنما هي مصدر أساسي ومحك رئيسي للحكم على صدق الحقائق العلمية من عدمه وليس العكس.

وسنعرض تحت هذا العنوان (
العلم في دائرة الدين
) لأهم الحقائق العلمية التي فسرت في ضوء آيات الذكر الحكيم:

ـ يقول الله تعالى عن بداية الكون: (
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا
) (
الأنبياء 30
). ويقول سبحانه عن نهاية الكون: (
يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
) (
الأنبياء 104
).. إن الكون بناء على تفسير هذه الآيات كان منظّمًا ومتماسكًا (
رَتْقًا
) ثم بدأ يتمدد في الفضاء، ويمكن رغم هذا التمدد تجميعه مرة أخرى في حيز صغير وهذه هي الفكرة العلمية الجديدة عن الكون(
4
).

ـ ويقول تعالى: (
اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
) (
الرعد 2
). وقد فسر العلماء (
العمد غير المرئية
) بأنها تتمثل في قانون الجاذبية التي تساعد كل هذه الأجرام على البقاء في أمكنتها المحددة.

ـ قوله تعالى عن الشمس والنجوم (
وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
) (
يس 4
) يعدُّه العلماء من أدق التعبيرات التي تعبر عن حركة دوران الأجرام السماوية في الفضاء.

ـ قوله سبحانه: (
يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا
) (
الأعراف 54
) يحوي إشارة رائعة إلى دوران الأرض محوريٌّا وهو الدوران الذي يعَدُّ سبب مجيء الليل والنهار.

ـ قول الله تعالى: (
وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ
) (
النحل 15
) يفسر ما ذهب إليه دارسو الجغرافيا باسم (
قانون التوازن
) ولا يزال العلم الحديث في مراحله البدائية بالنسبة إلى أسرار هذا القانون ومؤداه ببساطة: أن المادة الأقل وزنًا ارتفعت على سطح الأرض على حين أصبحت أمكنة المادة الثقيلة خنادق هاوية وهي التي نراها الآن في شكل البحار وهكذا استطاع الارتفاع والانخفاض أن يحافظا على توازن الأرض.

ـ قول الله تعالى: (
وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا
) (
الفرقان 53
)، وقوله تعالى: (
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ
) (
الرحمن 19
) هذه الإشارة القرآنية تؤكد صحة ما يسمى بالقانون الضابط للأشياء السائلة وهو قانون (
المط السطحي
) ومؤداه: أن كل سائل يحتفظ باستقلاله في مجاله لأن تجاذب الجزئيات يختلف من سائل لآخر(
5
).

إن هذه الإشارات القرآنية وغيرها الكثير لم تكن مصدّقة فقط لحقائق علمية بل هي أيضًا تردّ على أباطيل المتعسّفين ممن يقطعون العلاقة الحميمة بين الدين والعلم قطعًا، وتسقط كل المحاولات اليائسة لأصحاب الاتجاهات اللادينية والمادية في تفسيراتهم وادعاءاتهم، وسنذكر بعض الحقائق العلمية التي تكشف باطل هؤلاء وتدخل في دائرة الدين أيْ دائرة (
سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
) (
فصلت 53
):

1 ـ بطلان القول بأزلية الكون أو أنه خالق نفسه:

إن القول بأزلية الكون يترتب عليه عدم كفاءة عمل هذا الكون وازدياد عجزه يومًا بعد يوم وأنه بناء على هذا القول فلابد أن تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات وحينئذ لا تبقى أية طاقة للحياة في حين أن قانون (
الطاقة المتاحة
) أو ما يعرف (
بالقانون الثاني للحرارة الديناميكية
) يثبت أن العلميات الكيميائية والطبيعية جارية وأن الحياة قائمة ولو كان الكون أزليٌّا لفقد طاقته منذ زمن بعيد.

ومما يؤكد نظرية حدوث الكون ما قرره علم الفلك من اتساع الكون بالتسلسل الدائم وتباعد مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية بسرعة مدهشة بعضها عن بعض، وهذه الحالة لا يمكن أن تفسر إلا إذا سلّمنا بوقت للبدء كانت فيه كل الأجزاء التركيبية مركّزة ومجتمعة ثم بدأت الحركة والحرارة، ويقدر العلماء أن هذا الكون قد وجد نتيجة (
لانفجار
) فوق العادة وقع منذ ما يقرب من 20 إلى 60 بليون سنة(
6
)، والإيمان بهذا الكشف العلمي وهو أن للكون عمرًا محددًا يتعارض مع القول بأزليته.

2 ـ استحالة وجود المصادفة في النظام الكوني:

وذلك بناء على وجود الأنظمة المعقدة في الكون مثل:

أ ـ    نظام الدوران في الذرة.

ب ـ   نظام الفضاء الكوني وما ينظمه من مجاميع النجوم (
المجرات
).

ج ـ   النظام الدقيق للمجموعة الشمسية.

د ـ    النظام العصبي في الإنسان.

هـ ـ قانون الضغط والتوازن.

وهذا الأخير نجده يسير في كل الموجودات ونأخذ مثلاً واحدًا فقط له من (
النظام الغازي
).. فالغلاف الذي فوق الأرض مكون من ستة غازات منها 78% نتروجين و21% أكسوجين والغازات الأخرى توجد بنسب قليلة، وهذا الغلاف يضغط الأرض بنسبة 15 رطلاً في البوصة المربعة، ونسبة الأكسوجين في هذا الضغط 3 أرطال في البوصة المربعة، وهنا يبرز سؤال: كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة بهذه النسب الدقيقة في الفضاء؟ إن نسبة الأكسوجين لو كانت 50% لزادت قابلية الاحتراق، ولو أن هذه النسبة انخفضت فأصبحت أقل مما هي عليه لَقَلّ النشاط الإنساني والحيواني.. إن هذه الغازات العظيمة الأهمية للإنسان والحيوان لا يمكن أن تجتمع في تناسبها المطلوب وبجميع خصائصها على كوكب معين بطريقة الصدفة ولو باحتمال 1: 10.000.000.

إننا يمكن أن نفهم شيئًا عن طبيعة قانون الصدفة من المثال الذي ذكره العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون حينما يقول: (
لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من 1: 10 ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدًا ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العادي بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى.. فإمكان تناول الدرهم المكتوب عليه (
2
) في المحاولة الأولى هو واحد إلى عشرة وإمكان أن تتناول الدرهمين 1، 2 بالترتيب هو واحد إلى مائة وإمكان أن تخرج الدراهم 1، 2، 3، 4 بالترتيب هو واحد إلى عشرة آلاف وإمكان أن نتناول الدراهم من 1: 10 بالترتيب هو واحد إلى عشرة ملايين من المحاولات)(
7
).

ويستطرد العالم قائلاً: (
إن الغرض من هذا المثل البسيط هو أن تبين كيف تتكاثر الأعداد وتتعقد الوقائع بنسبة كبيرة جدٌّا ضد مبدأ المصادفة
)(
8
).

إن عجائب خلق الله وقدرته لا تنتهي فلو أننا نظرنا إلى الأجسام الحية لوجدناها تتركب من (
خلايا حية
) وهذه الخلية مركب صغير جدٌّا ومعقد غاية التعقيد وهي تدرس تحت ما يسمى بـ (
علم الخلايا
).

ومن الأجزاء التي تحتوي عليها هذه الخلايا (
البروتين
) وهو مركب كيميائي من خمسة عناصر هي: الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأكسوجين والكبريت.. ويشمل الجزيء البروتيني الواحد أربعين ألفًا من ذرات هذه العناصر، والكون يوجد فيه أكثر من مائة ألف عنصر كيماوي كلها منتشرة في أرجائه.. فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون الصدفة؟

أيمكن أن تتركب خمسة عناصر من هذا العدد الكبير لإيجاد الجزيء البروتيني بصدفة واتفاق محض؟

لقد حاول رياضي سويسري شهير هو الأستاذ (
تشارلز بوجبين جواي
) أن يستخرج المدة التي يمكن وقوع الحادث الاتفاقي فيها ليؤدي ذلك إلى خلق كون على افتراض وجود المادة، وحاول ذلك عن طريق الرياضة فانتهى في أبحاثه إلى أن إمكان وقوع الحادث الاتفاقي هو 1 على 60 قسمة 10، أي 10 × 10 مائة وستين مرة، وبعبارة أخرى نضيف 160 صفرًا إلى جانب (
10
) وهو عدد هائل لا يمكن وصفه في اللغة.

إن جزيء البروتين يتكون من (
سلاسل
) طويلة من الأحماض الأمينية، وأخطر ما في هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها السلاسل بعضها مع بعض فإنها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة لأصبحت سُمٌّا قاتلاً بدلاً من أن تصبح موجدة للحياة.

ولابد أن يكون واضحًا أن القول بالإمكان في قانون الصدفة الرياضي لا يعني أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره بعد تمام العمليات السابق ذكرها في تلك المدة السحيقة، وإنما معناه أن حدوثه في أثناء تلك المدة محتمل لا بالضرورة.

ثم إن هذا الجزيء البروتيني ذا الوجود (
الكيماوي
) لا يتمتع بالحياة إلا عندما يصبح جزءًا من الخلية.. فهنا تبدأ الحياة وهذا الواقع يطرح أهم سؤال وهو: من أين تأتي الحرارة عندما يندمج الجزء بالخلية؟ ولا جواب عن هذا السؤال في أسفار غير المؤمنين من المعارضين والملحدين.

إن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون مستترين وراء قانون الصدفة الرياضي لا ينطبق على الخلية نفسها، وإنما على جزء صغير منها هو الجزيء البروتيني ورغم هذا فنحن رأينا استحالة ذلك أيضًا، وهذا الجزيء ذرة لا يمكن مشاهدتها بأقوى منظار، في حين أننا نعيش وفي جسد كل منا ما يربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا.

إذن هناك ذرات (
غير منظورة أساسًا
)، ثم ترتيب هذه الذرات ليكون هناك جزيء بروتيني، ثم تكون (
الخلية
)، ثم مسألة الحياة نفسها، ثم ما نحتاجه من جينات وراثية تحملها هذه الخلايا، وهي في حد ذاتها مسألة تخضع لقوانين غاية في التعقيد، وهكذا لا نصل إلى اكتشاف سر حتى يقودنا إلى أسرار أخرى كثيرة متتابعة.

يقول عالم الطبيعة الأمريكي (
جورج إيرل ديفيس
): (
لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه، فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود الإله ولكن إلهنا هذا يكون عجيبًا: إلهًا غيبيٌّا وماديٌّا في آن واحد!! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي وهو ليس بجزء منه بل حاكمه ومدبره بدلاً من أن أتبنى مثل هذه الخزعبلات
)(
9
).

وخلاصة القول: إن كل ما لدينا من علم يؤكد لنا أن ما قد كشف أقل بكثير مما لم نستطع حتى الآن الكشف عنه، وبرغم ذلك فإن ما كشفه الإنسان كثير جدٌّا حتى إننا لو أردنا فهرسة عناوين هذه العلوم سنحتاج إلى سفر ضخم جدٌّا وسوف يبقى بعد ذلك أيضًا الكثير منها دون فهرسة. إن كل ما يمكن للسان الإنسان أن يلفظه عن آلاء الله وآياته سوف يكون غاية في النقص فمهما فصّلناها وأسهبنا في تفسيرها فسنخرج آخر الأمر بحقيقة أننا لم نُحِطْ بها، وإنما تناولنا منها بعض الشيء (
وَلا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَآءَ
)، والحق أنه لو قدر أن تنكشف للإنسان جميع العلوم الكونية ثم يجلس سكان المعمورة وقد هيئت لكل فرد منهم جميع الوسائل في أكمل صورها ـ فإن هؤلاء جميعًا لن يستطيعوا تدوينها أبدًا(
10
).

أليس هذا مصداقًا لقوله تعالى: (
وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّانَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ
) (
لقمان 27
). وقوله سبحانه: (
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا
) (
الكهف 109
) صدق الله العظيم. 

المراجع:

1 ـ   مجلة الوعي الإسلامي العدد (
299
) (
قرأت لك
) ـ التحرير ـ وزارة الأوقاف (
الكويت
) يونيو 1989.

2 ـ   انظر في ذلك: (
معجزة القرآن
) الجزء الثاني ـ الفصل الأول (
الله والكون
) محمد متولي الشعراوي ـ كتاب اليوم ـ دار أخبار اليوم ـ القاهرة ـ العدد 187 ـ شعبان 1401 ـ 15 يونيو 1981.

3 ـ   الإسلام يتحدى ـ وحيد خان ـ ص68 ـ كتاب المختار الإسلامي ـ الطبعة السابعة ـ القاهرة ـ 1977م.

4 ـ   راجع: (
من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
) ـ د. زغلول النجار ـ الجزء الأول ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار النصر للطباعة الإسلامية ـ القاهرة عام 2000.

5 ـ   انظر: (
الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث
) ـ د. حسني حمدان الدسوقي ـ القسم الثاني ـ سلسلة قضايا إسلامية العدد (
85
) ـ وزارة الأوقاف ـ القاهرة سنة 1423هـ ـ 2002م.

6 ـ   نظرية (
جورج ليمنز
) عن فكرة البيضة الكونية عام 1931، ونظرية (
جورج جاموف
) الروسي عن (
الانفجار العظيم
) ـ انظر المصدر السابق ـ القسم الأول ـ العدد (
83
) ص38.

7 ـ 8 ـ (
العلم يدعو للإيمان
) أ. كريسي موريسون ـ ترجمة محمود الفكلي ص51. مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1978م.

9 ـ  الإسلام يتحدى ـ مصدر سابق.

10- المصدر السابق 98. 
                 
 
 

 
 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/74-Number-XVI/989-Islamic-methodology-and-scientific-thinking