logo.png
من أوجه الإعجاز العلمي في السنة النبوية.. الميـاه الراكدة ودورة البلهارسيا
طباعة



من أوجه الإعجاز العلمي في السنة النبوية..

الميـاه الراكدة ودورة البلهارسيا

د. يحيى إبراهيم محمد


ورد في صحيح البخاري: باب البول في الماء الدائم (236) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن الآخرون والسابقون)، وبإسناده قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه).

كما افرد البخاري رحمه الله بابا في النهي عن الاغتسال في الماء الراكد (283) عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه سمع أبا هريرة يقــول قال رســول الله صلى الله عليه وسلم: (
لا يغتسل أحدكم بالماء الدائم وهو جنب
) فقال كيف يفعل يا أبا هريرة قال يتناوله تناولا.

وفي صحيح مسلم باب الماء الدائم (57) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه
).

وفي صحيح ابن حبان ج 4/ص67، عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب
).

كما أخرج حديث أبو هريرة ابن ماجة والترمذي والنسائي وأبو داود والدارقطني واحمد في مسنده.

واستدل الفقهاء من هذه الأحاديث النبوية، على حرمة البول في الماء الراكد الذي لا يجري، وكراهية ذلك في الماء الجاري إن كان كثيرًا، وتصل هذه الكراهية للحرمة إن كان الماء الجاري قليلاً لمظنة تغيره بذلك.

كما أجمعوا على أن حرمة التغوط في الماء أشد من حرمة التبول فيه.

أما عن استعمال الماء الراكد للضرورة في الوضوء أو الاغتسال، فلم يحرم ذلك، وإنما حرم الانغماس فيه.

هذه تعليمات وإرشادات إسلامية صادرة من نبي الهدى، الذي لا ينطق عن الهوى وإنما نطق عن وحي يوحي منذ أكثر من الف وأربعمائة سنة، وإنه من تمام إيمان المسلم الاخذ بما آتاه الرسول، والانتهاء عما نهى عنه، موقنا أنه الحق الذي يحمل خيري الدنيا والآخرة، مادام أن هذا الامر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بطريق صحيح.

وهكذا وقف علماء المسلمين في التحقق من الرواية، ثم الاستدلال من واقع الألفاظ والعبارة، على المقصود منها بكل عناية، فإنها المرجع والنهاية لكل فقيه مجتهد، وعالم متبع.

والماء الدائم هو الماء الراكد الذي لا ينقطع عن المكان في غالب الوقت، أو المستديم الذي لا يجف أبدًا مع ركوده.

ويقابله الماء الجاري الذي لا يسكن لتجدد المدد له، وإن استدام على هذه الحال.

فلو كان العقل حكما في ذلك فما عساه الفرق بين الماء الجاري، والماء الدائم إذا كان نظيفا وصالحا للوضوء؟

ولم النهي عن الانغماس في الماء الدائم تحديدًا، ولم يحدد في ذلك الماء الراكد؟

فإننا نرى تبويب هذه الأحاديث في كتب الحديث، تحت عنوان الماء الراكد (بم لا يستدل منه على فرق بين الماء الدائم والراكد)، وإن كانت لفظة (الماء الراكد) لم ترد في أي من الروايات التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم!!..

وإنه كان المقصود النظافة، فقد يظهر لنا أنه أبلغ في النظافة، أن ينغمس الإنسان في الماء إن توفر له، والظاهر كذلك، أن ليس في ذلك إيذاء للنفس ولا للآخرين. فإن الإنسان بنفسه لا ينجس الماء إذا مسه وخالطه، بل إنه في هذه الحال يحافظ على الماء، ولا يهدره كما لو تناوله!!.

لكننا إذا نظرنا إلى نص الحديث، نجد ان هذه الأمور قد حسمت، ولا مجال فيها البتة، إلا أن يكون رفضا لما نهي عنه.

وإنما تركت مساحة للاستدلال الصحيح، فقد ورد النهي عن البول، ويقاس عليه أن النهي عن البراز في الماء أشد.

وورد النهي عن البول في الماء الدائم والحاجة إليه في الوضوء قائمة فيقاس عليها نفس الحرمة للبول في الماء الجاري، إن كان قليلاً والكراهية إن كان كثيرًا، والأولى ترك ذلك لما فيه من الاستقذار، وتغيير الماء الذي يحتاج له المسلم في الوضوء والاغتسال.

أما إذا استأنسنا بعلوم العصر بخصوص المياه السطحية، وما تكشف فيها من أسرار لم تخطر على بال البشر قبل القرن الماضي من الزمان فإنه سيتبين لنا مدى الإعجاز وسبق التشريع فيما لم نصل إليه حتى يومنا هذا.

فإلى هذه المقدمة التاريخية:

إنه في عام 1851م، استطاع الطبيب الألماني ثيودر بلهارس استخراج ديدان البلهارسيا البولية من الأوردة الدموية في جثة متوفى، وذلك أثناء أحد دروسه العملية في مستشفى القصر العيني بالقاهرة، واستطاع أن يبرهن لاحقا على أن هذه الديدان هي المسببة لظاهرة البيلة الدموية للمصريين الذين اكتشف بيض الطفيل ذي الشوكة الرأسية في بولهم.

وسجل بلهارس خطأ وجود نوعين من البيض (ذي شوكة رأسية، وجانبية) في رحم دودة البلهارسيا. إذ إنها لا تحتوي إلا على بيض ذي شوكة رأسية.

وبعد سنوات عديدة أثبت العلماء وجود نوعين من طفيليات البلهارسيا تصيب الإنسان في مصر، وهما طفيل البلهارسيا البولية (وبيضه ذو شوكة رأسية)، وطفيل البلهارسيا المعوية (وبيضه ذو شوكة جانبية)، وعرفت كذلك طرق انتقال هذا الطفيل إلى الإنسان.

وفي عام 1864م سجل هارلي بعض حالات البلهارسيا البولية بين مواطني جنوب إفريقيا، وكان يشارك بلهارس الرأي بأن أحد الرخويات قد يكون العائل الوسيط للطفيل.

كما سجل مانسون في عام 1902م، وكاستيلا في عام 1903م، بعض حالات الإصابة ببلهارسيا المستقيم، مع ظهور بيض ذي شوكة جانيبة في البراز، وكان ذلك في غرب الإنديز وأوغندا.

وقد انتقد لوس هذه المعلومات، على أساس قناعته بأنه لا يوجد إلا نوع واحد من البيض، وهو بيض البلهارسيا البولية ذا الشوكة الرأسية، وأن البيض ذو الشوكة الجانبية ينتج من إخصاب عذري للبلهارسيا البولية، ولكن سامبون تصدى لهذه الآراء، وتحصل على ديدان وبيض البلهارسيا المعوية، ذي الشوكة الجانبية، في عام 1907م. وقد سجل فوجي سنة 1847م، أول معلومات عن الإصابة بالبلهارسيا اليابانية، ثم تحصل كاتسوارادا على الدودة في عام 1904م، من الجهاز الوريدي البابي الكبدي للقطط، وسماه الطفيل الياباني.

وفي عام 1909م، قرر فجينامي وناكوراما، أن الإصابة بالبلهارسيا تتم عن طريق الجلد. ووصف بعض العلماء كفوجينامي في عام 1910، ومياري وسوزوكي عامي 1913م و1914م، وليبر اتكنسون عام 1915م دورة حياة البلهارسيا، وأثبتوا مراحل حدوثها في تجارب معملية عديدة وبرهن الأخير على وجود نوعين من طفيليات البلهارسيا في مصر، كما برهن على أن القواقع من نوع بيومفلاريا، ومن نوع بولينس هي العوائل الوسيطة للبلهارسيا المعوية، والبلهارسيا البولية على التوالي، وأن الطور المعدي يدخل إلى جسم الإنسان عن طريق الجلد.

دورة حياة البلهارسيا:


تتميز دورة حياة البلهارسيا بتبادل الأجيال، إذ يوجد جيل جنسي في العائل الفقاري النهائي الذي يستضيف الديدان البالغة، وجيل لا جنسي (الأطوار اليرقية) في العائل اللافقاري من الرخويات (القواقع).



ويصل البيض إلى البيئة الخارجية من خلال البول أو البراز. وتتحكم عدة عوامل في خروج البيض من جسم الإنسان مثل ضغط الدم في الشعيرات الدموية، وتمعج الأحشاء (الحركة الدودية للأمعاء)، والأنزيمات المذيبة التي يفرزها الحيوان الهدبي (الميراسيديوم، وهو الطور اليرقي داخل البيضة)، ثم تأثير الشوكة الموجودة على السطح الخارجي للبيضة.

كما ثبت أخيرا، أن خروج البويضات من الغشاء المخاطي للامعاء ثم إلى البراز، يتم بمهاجمة الخلايا المناعية من جسم الإنسان لهذه البويضات، حتى يتم طردها للخارج، أو يتم بقاؤها في جدار الأمعاء أو ترتجع إلى الكبد، لينشأ نفس الالتهاب حولها والذي تنتج عنه أعراض المرض. ففي إحباط الخلايا المناعية وفي الفئران المصابة، تتوقف البويضات عن الخروج في البراز.

وتختلف كمية البيض الخارج يوميا من جسم الإنسان تبعا لنوع الطفيل، إذ تصل إلى أقصى معدلاتها في طفيل البلهارسيا اليابانية (560 ـ 2200) وتتراوح بين (66 ـ 495) بيضة في طفيل البلهارسيا المعوية.

ويفقس البيض تحت تأثير الحرارة والضوء واختلاف الضغط الاسموزي، خلال فترة وجيزة، مطلقا طورا يرقيا هدبيا (الميراسيديوم)، يسبح بسرعة 2مم في الثانية، ويحتفظ بالمقدرة على إحداث العدوى بعائله الوسيط من الرخويات (القوقع) خلال فترة تمتد بين 8 ـ 12 ساعة عند درجة حرارة 24 ـ 28مْ. (وفي مسح أجرى بالبرازيل لقياس درجة إصابة القواقع، وجد أن نسبة القواقع المصابة تمثل 0.2% فقط من مجموع القواقع المختصة بنقل المرض، ومع ذلك فإنها تكون كافية لنقل العدوى، واستمرار دورة الحياة.ويدخل الميراسيديوم إلى جسم القوقع، ويتحول إلى الطور الكيسي، ثم يهاجر بعد ذلك إلى القناة الهضمية للقوقع، حيث ينتج الطور اليرقي المعدي المعروف بالمذنبات (السركاريا)، والتي تتميز بذيلها المشقوق وعدد من غدد الاختراق في مقدمتها لتساعد المذنب على اختراق جلد العائل النهائي، بإقرازاتها المذيبة للأنسجة. وتترواح الفترة بين دخول الميراسيديوم إلى جسم القوقع وخروج السركاريا (وهي ما تعرف بفترة الحضانة) بين 28 ـ 49 يوما تبعا لنوع الطفيل والقوقع والعوامل البيئية المصاحبة.

ويخرج القوقع المصاب يوميا ما يقارب 1500 من المذنبات، على دفعات تصل إلى 24 دفعة في فترة النهار، ويستمر ذلك على مدى 24 يوما.

وتسبح المذنبات في الماء وتبقى خلال 12 ـ 48 ساعة، ولكنها تفقد قدرتها على العدوى بعد 5 ـ 8 ساعات، إذ تعتمد هذه المذنبات على الغذاء المختزن في الذيل والذي يستنفد خلال هذه الفترة.

ويمكن أن تخترق هذه المذنبات جلد العائل النهائي الفقاري (إنسان أو حيوان)، (ويستغرق الاختراق الفعلي للطبقة السطحية من الجلد نصف ساعة Epidermis ثم تخترق الغشاء الفاصل بين هذه الطبقة وطبقة الجلد Basament Membrane على مدى يوم أو يومين، لتصل إلى طبقة الجلد Dermis، ثم تخترق أحد الأوعية الدموية في خلال 10 ساعات.ويتحول الطفيل أثناء ذلك إلى دودة صغيرة Schistosomule قد تهاجمها الخلايا المناعية بالجسم، أو تصل إلى الرئتين، ويفقد الكثير من هذا الطور هناك، أو يصل إلى الدورة البوابية للكبد (في طفيل مانسوني والياباني)، حيث يكتمل نموه إلى طور الطفيل البالغ، ويتم احتضان الذكر للأنثى، ثم يتحركان نحو أماكن وضع البيض في الأوردة الدموية للقولون والمستقيم (sup. Mesenteric for mans. & inf. Mesenteric for jap).

كما يتجه طفيل البلهارسيا البولية إلى الدورة الوريدية العامة، ويستقر الطور البالغ في أوردة المثانة وأسفل الحالب. وهكذا يصل الطفيل إلى الطور البالغ في العائل الفقاري النهائي، خلال الفترة 25 ـ 63 يوما.

وتستمر حياة هذا الطور البالغ في جسم الإنسان 7 سنوات، ولكن لوحظ وجود البويضات الحية في بول أو براز المصابين بعد 20 سنة من الإصابة، ومغادرة الأماكن الموبوءة.

طفيليات البلهارسيا:


تعد طفيليات البلهارسيا من أهم الديدان المفلطحة التي تعيش في الأوعية الدموية للإنسان وغيره من الفقاريات، وتسبب للإنسان مرضا خطيرًا يؤثر على أغلب أعضاء الجسم، وهو مرض البلهارسيا.

وقد اهتم العلماء بدراسة أنواع هذه الطفيليات، والقواقع الناقلة لها، وأماكن انتشارها.

وقد أمكن تقسيم طفيليات البلهارسيا المختلفة إلى أنواع تبعا لشكلها الخارجي (كما يظهر بالمجهر الإلكتروني الماسح) وصفاتها البيولوجية ومميزاتها الأخرى.

فمن هذه الطفيليات مجموعة تصيب الطيور، وأخرى تصيب الثدييات.

ومن الأخيرة ما يصيب الإنسان أو يشترك في إصابة الإنسان وغيره من الحيوان.

ومن أهم الأنواع التي تصيب الإنسان مجموعة البلهارسيا البولية، ومجموعة البلهارسيا المانسونية، ومجموعة البلهارسيا الهندية، ثم مجموعة البلهارسيا اليابانية.

كما عنيت الدراسات بالقواقع الناقلة للبلهارسيا، من حيث أنواعها، ومدى مواءمتها للطفيل، وطرق انتشارها وأثر البيئة عليها.

وقد أظهرت الدراسات حساسية هذه القواقع للعوامل الفيزيائية والكيميائية مثل درجة الحرارة والاس الهيدروجيني وشدة الإضاءة وكمية الأمطار والمحتوى المعدني والملحي للمياه، كما ظهر تباين درجة تحملها للجفاف النسبي.

ولا يخفى أن طرق مقاومة القواقع، تعتمد في المقام الأول على معرفة بيئتها، والعوامل المؤثرة على حياتها.

فإن القواقع لها قدرة محدودة على تحمل الجفاف، ولكن مع جفاف بعض المجاري المائية تبقى بعض البؤر الرطبة والمستنقعات التي يكمن فيها القوقع ليستعيد نشاطه مع عودة المياه.

ويسهل مداهمة هذه البؤر باستخدام المبيدات الكيماوية للقضاء على بؤر التوالد، وقطع دورة الحياة للطفيل.

المناطق الموبوءة ومدى انتشار المرض:


تنشر المياه الصالحة لنمو القواقع وانتشار المرض في القارة الإفريقية، والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي وبعض أماكن في جنوب أوروبا وأمريكا الشمالية، أما البلهارسيا اليابانية فاكثر انتشارها في اليابان والفليبين ومناطق الشرق الأقصى.

ويقدر عدد المصابين في العالم بما يزيد عن 250 مليون مصاب.

وقد أدى بناء السدود والخزانات إلى زيادة مطردة في انتشار الإصابة بالمرض.

ففي مصر على سبيل المثال، أدى تحويل ري الحياض إلى الري الدائم، وتكون بحيرة السد إلى أن أصبح مجرى نهر النيل نفسه، بالإضافة إلى البحيرة من مصادر الإصابة بالمرض بعد أن كانت خالية منه، وارتفعت نسب الإصابة بالمرض في القرى إلى مابين 60 ـ 80%.

وتعتمد طرق الوقاية والمكافحة حاليٌّا على:

علاج الأفراد المصابين، والذي يهدف إلى الإقلال من فرص إصابة القواقع بالطفيل وانتشار العدوى، ويتم ذلك بالعلاج الجماعي لكل أفراد المجتمع دون إجراء أية فحوص تشخيصية، أو علاج جميع المصابين، أو علاج الإصابات العالية فقط. وذلك تبعا لدرجة انتشار المرض، وتوفر الإمكانات.

مكافحة القواقع والأعشاب المائية التي تساعد على توالدها، والبؤر التي تساعد على استمرار وجودها.

منع تلوث المياه ببيض الطفيل وذلك بتوفير الصرف الصحي ونشر الوعي بين الناس:

تبذل الجهود لاستحداث لقاح ضد الطفيل في مرحلة دخوله إلى الجسم، ولكنها لم تحرز إلا نجاحًا محدودًا.

وإذا نظــرنا لطريقـــة العـــدوى، والتي تحدث عن طريق المذنبات في الماء الراكد، فإن هذه المذنبــات تنطلق من القواقع المصابة كما ذكرنا في النهار، وتسبح في المياه مثل الميراسيديوم للبحث عن العائل وتتخذ نفس طريقة حركة الميراســـيديوم في الميــاه وتتجه للظل وراء الاعشاب وتلتصق بأسطحها، أو تنجذب بالأحرى إلى العائل، منجذبة له بالحرارة والمواد الكيميائية المنبعثة من الجلد (F.A. ,a.a. ، dopamine، arginine).

وقد وجد مذنب البلهارسيا اليابانية، دونا عن الأنواع الأخرى، أنه ينجـــذب بنفس الدرجة لجميع الأسطح في الماء في غير مفاضلة بين الأسطح الحية، أو جلد الطيور، أو الحيوان، أو الإنسان.

وهكذا نرى أنه في انغماس الإنسان في الماء تنجذب إليه هذه المذنبات من محيط الماء، كما انه يفقد طبقة الدهن على الجلد التي تمثل وقاية ووسطا يقتل المذنبات، وتتشرب طبقة الكيراتين بالماء، فيسهل على هذه المذنبات بعد الانغماس اختراق الجلد وإحداث الإصابة فيه، ولكن في تناول الماء للاستخدام دونا عن الانغماس فيه فإن الماء المتناول يكون بعيداً عن تجمع المذنبات فلا يحوي منها إلا القليل مهما كانت الإصابة عالية في الماء وبعد انجذاب المذنبات لجدران الإناء، فإن ما يقع منها على الجلد، يجده في تمام الوقاية، ثم ينساب الماء عليه ولا يلتصق به.

ومما تجدر الإشارة له، أن الدراسات تجري الآن على الوقاية الجلدية من الإصابة بالبلهارسيا:

يعتبر الجلد سطحا غير محب أو طارداً للماء Hydrophobic surface، بفضل طبقة الكيراتين، والمادة الدهنية Sebum التي تفرزها الغدد الدهنية على كافة أنحاء الجلد، والتي تكون مع الإفراز العرقي الحامضي، طبقة واقية تعرف بالطبقة الحامضية Acid Mantle. ومع إزالة الطبقة الدهنية بالانغماس في الماء لفترات طويلة أو استخدام الصابون أو المنظفات تفقد هذه الطبقة، وقد ثبت أن هذه الطبقة تمنع تكاثر في هذه المناطق لا غنى لهم عن هذا الماء. ولكننا نجد في المقابل، أن التشريع الإسلامي يعنى بكيفية استخدام هذا الماء، وليس بتمام تجنبه والابتعاد عنه.

اما في تلوث الماء بالبويضات من البول أو البراز، فإنه رغما من التمدين والتحضر وانتشار العلم بين الناس، والطفرة المحققة في مجال الاتصال والإعلام، فلا زالت دورة الحياة للطفيل قائمة، والإصابة به في اطراد، مع ما ينفق من أموال، ويبذل من جهود.

أما وإن ذلك في الإسلام من المحرمات أو الملاعن، فقد علم ذلك القاصي والداني وانتشر في المجتمع الإسلامي، عندما كانت دولة الإسلام، حتى لقد استشعر أعداء المسلمين أن هذه التعاليم على مكان من دينهم، فأصدر جنكيز خان (هلك في سنة 624هـ، وكان السلطان الأعظم للتتار) في السياق الذي كتبه معارضا منهج المسلمين ــ كما يذكر الجويني نتفا منه:

(أنه من سرق قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن زنى قتل محصنا كان او غير محصن، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا...) إلى غير ذلك من ضلالاته، والتي يعرف منها هنا، أن هذا الأمر كان محرماً ومستقبحا عند المسلمين مثل الزنى والقتل. (انظر كتاب البداية والنهاية).

وأخيرا، فإن من دلالات الإعجاز في الحديث النبوي، تخصيص الماء الدائم بتحريم تلويثه والحذر منه، ثم إلحاق المحافظة على عموم الماء في حرمة تلويثه سواء الراكد أو الذي يجري قياسا على ذلك.

فإن الماء الجاري لا يناسب حياة القواقع ولا أطوار الطفيل الضعيفة، وكذلك فإن القواقع التي تقوم عليها حياة الطفيليات تنقطع عن الماء الراكد الذي يجف أو ينقطع في بعض مواسم العام.

أما الماء الدائم فإنه ماء راكد، ولكن تتم فيه دورات الحياة للطفيليات، كما رأينا لعدم انقطاعه فترات تهلك القواقع.

كما أننا نرى أنه لم يستثن الشرب من الماء الدائم بالإباحة، وإنما كان الاستثناء فقط لاستخدام هذا الماء في الوضوء أو الاغتسال.

وفي استخدام الماء فإنه يشترط أن يكون على ظاهر الطهارة، ولم يتيقن من البول أو البراز فيه، ومن ثم يستخدم مناولة وعلى حذر، في غير مبـاشرة لمجرى الماء، ومن غير انغماس فيه.

فبالنسبة للشرب، فإن أمراضًا اخرى تنتقل عبر الماء العذب العموم، وهي مجموعات من الأمراض الفيروسية (مثل التهاب الكبد الوبائي)، أو البكتيرية (مثل التيفود)، أو الطفيلية (مثل الدسونتاريا الأميبية).

وقد تنتقل هذه الأمراض بشرب الماء الملوث، وإن كان على ظاهر الطهارة، ولكنها لا تنتقل عن طريق الجلد.

أما وإن الماء الدائم أقرب للتلوث وإصابة الإنسان بالأمراض وقد حرم ذلك، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلويث عامة الموارد وجعلها من الملاعن التي تستوجب لعن الناس لفاعلها.

فقد روى الإمام مسلم وأبو داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل
).

ففي عصرنا عظمت أسباب التلوث حتى طالت ماء البحر، وضيقت على الناس معايشهم.. ففي تقرير صدر في واشنطن، أن ملايين الأمريكيين يستخدمون يوميا مياها ملوثة في الشرب والاستحمام والطهي. وقال نفس التقرير، والذي كتبه (إيريك ولسون)، إن نسبة الزرنيخ أعلى من المستوى المسموح به في قطاع كبير من ماء الشرب، مما يعرض للإصابة بالسرطان،

كما تأثر ملايين الأشخاص وبسبب انتهاكات القوانين الخاصة بسلامة المياه (انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي).

وهكذا لا أجد لي وللمسلمين اليوم إلا قول الله تعالى:

(
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
) (التوبة: 128)

فأحرى بنا أن نكون أقرب للاتباع، بعد أن بعدنا عن هدى النبوة، فننفع أنفسنا، ونكون مثالا يحتذي به.

أما غير المسلمين، فليعلموا أن هذا هو دين الله للناس كافة، من تبعه في الدنيا نال خيرها، لقوله تعالى:

(
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
) (النساء: 66)

ومن اتبعه للآخرة ناله خيري الدنيا والآخرة، لقوله تعالى:

(
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاٌّ نُّمِدُّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
) (الإسراء 18 ـ 20)

هذا والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



المراجع:


الحديث النبوي الشريف وعلومه مكتبة البيت المسلم الشاملة الإصدار الثاني 1420هـ. التراث مركز الأبحاث الحاسب الآلي برامج القمة.

الفقه الإسلامي وأصوله مكتبة البيت المسلم الشاملة الإصدار الثاني 1420هـ التراث مركز الحاسب الآلي برامج القمة.

البلهارسيا في المملكة العربية السعودية أ.د. عبدالإله عبدالعزيز باناجة مركز النشر العلمي جامعة الملك عبدالعزيز 1420هـ.

الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي تأليف الأستاذ محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله المملكة المغربية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1417هـ ـ 1996م.

البداية والنهاية للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير المتوفى سنة 774هـ. دار المعرفة ببيروت-لبنان. 

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/74-Number-XVI/831-Aspects-of-the-scientific-miracles-in-the-Sunnah