أخطار الرصاص الصحية والحماية الربانية | العدد الخامس عشر
أخطار الرصاص الصحية والحماية الربانية
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



أخطار الرصاص الصحية والحماية الربانية

د. عبدالبديع حمزة زللي

أستاذ علم البيئة

يعاني بعض الأطفال خاصة من ضعف الذاكرة والتبلد، وسرعة الغضب والإثارة، والحركة المفرطة، واعتلالات صحية أخرى، ويعتقد كثير منا أن هذه الأعراض قد تعود إلى فطرتهم التي خُلِقوا عليها، في حين أننا لو بحثنا في هذا الأمر لوجدنا معظم هؤلاء قد ولدوا أصحاء، جسمهم معافى من الأمراض، ومخهم سليم من الاعتلالات والأذى، ولكن هناك أشياء متنوعة ربما صاحبتهم في حياتهم اليومية، أخذت تقذف في أجسامهم مواد وعناصر ضارة سامة بكميات ضئيلة تراكمت فيها مع مرور الأيام والسنين، وبدأت تأثيراتها في الظهور تدريجيٌّا. وهذه المواد والعناصر الضارة كثيرة، لكن الرصاص يُعَدّ من أهم العناصر التي تسهم في التأثير على مخ الأطفال خاصة والكبار عامة، فهو يدخل في الجسم من مصادر عديدة ومتنوعة، ولذلك فإن هذا المعدن يعد من أكثر المعادن التي لاقت اهتمامًا بالغًا من قبل المختصين والعامة، وشملت الدراسات والأبحاث حوله مواضيع تلويثه للهواء والماء والتربة والغذاء، وتأثيره على معظم الكائنات الحية، وذلك بسبب تأثيراته الواضحة على عقول البشر وصحتهم، فهو في مختلف بلاد العالم ربما يكون أحد المصادر التي تعمل على نشوء أجيال متخلفة عقليٌّا وصحيٌّا إذا تعرضت إلى تركيزات عالية من الرصاص، لذلك ذهبت جميع الجهات المسؤولة عن الصحة عالميٌّا ومحليٌّا إلى تشريع القوانين والتشريعات المختلفة لإبعاد معدن الرصاص من معظم المصادر التي تصاحب الإنسان في حياته اليومية، وتوعيته بأخطاره الصحية التي لا تنحصر فحسب في التأثيرات على المخ وإصابته بأضرار صحية متنوعة، وإنما قد يسبب له فقر الدم والتأثير في خصوبة الرجل والمرأة، والإصابة بآلام في البطن ومغص شديد، والتأثير على الجهاز العصبي المركزي، وتلف الكل



إن المصادر التي تعرضنا إلى الرصاص كثيرة ومتنوعة وهي تشمل: المصاهر، والمصانع، ووقود السيارات (البنزين)، والأصباغ، والأطعمة المحفوظة في العلب المعدنية، والتربة الملونة، وغبار المنازل.

ويُعدّ حتى الآن اللعب في التربة الملوثة واستنشاق غبار المنازل من المصادر المهمة التي تعمل على دخول الرصاص في أجسام أطفالنا على وجه الخصوص(4) (7).

ولقد تنبه العلماء إلى خطورة الرصاص على صحة الكبار والأطفال خاصة من خلال دراساتهم وأبحاثهم، وخرجوا بتوصيات عديدة لمختلف الجهات المسؤولة المحلية والعالمية؛ للحيلولة دون التعرض إلى مصادر الرصاص، وكان من بين هذه التوصيات: نزع الرصاص من البنزين، وهذا مطلب لا بد منه؛ كي تجنب البشرية مصدرًا من مصادر تلوث البيئة بالرصاص، حتى وإن كان هذا المصدر غالبًا ما يكون حبيسًا في بيئات الطرق، غير أنه كان ينبغي علينا أن نتنبه ونحذر من مشكلات البديل، ونسأل أنفسنا:

هل بديل الرصاص سينفث في البيئة ملوثات أخرى أم لا؟ وإذا كان البديل له ملوثات، فهل أضرار هذه الملوثات أقل أو متساوية، أو أكثر من تلك التي تنتج عن الرصاص؟.

إذا كانت التأثيرات الصحية التي تنتج عن البديل أقل من تلك التي تنتج عن الرصاص فلا بد إذًا من تعميم البديل حتى نتخلص من مصدر واحد من الملوثات بالرصاص على الأقل.

ومن المعروف أن معدن الرصاص يضاف إلى وقود السيارات كي يرفع العدد الأكتيني للبنزين، ويكون عاملاً ضد الخبط (تخبيط محرك السيارة)، ولعل إضافة هذا المعدن في وقود السيارات (البنزين) كمادة مانعة للخبط قد وجه الأنظار إلى هذا المصدر؛ إذ تنطلق من عوادم السيارات جزيئات الرصاص بمختلف أشكالها وتركيباتها وأحجامها.

وهذا ما أقلق العلماء وعامة الناس؛ خوفًا من دخول الرصاص في الأجسام عن طريق هذا المصدر.

وبالرغم من أن وجود الرصاص في الهواء هو مصدر لدخول هذا المعدن في جسم الإنسان، إلا أن الخوف من هذا المصدر مبالغ فيه للغاية مقارنة بالمصادر الأخرى التي غالبًا ما تؤدي إلى دخول الرصاص في جسم الإنسان بكميات كبيرة جدٌّا تفوق آلاف المرات ما يدخل عن طريق هواء التنفس، وخاصة بالنسبة للأطفال الصغار الذين يلجأون غالبًا إلى مضغ التربة وكسرات الدهانات الساقطة من الجدران، فكسرة من طلاء ـ أزيل من الجدار أو موجودة على قطعة من الخشب ـ في حجم قُلامة الظفر تحتوي على كمية رصاص تتراوح بين 50 إلى 100 مجم(3)، في حين أن أعلى تركيز للرصاص يمكن أن يوجد في هواء المدن يتراوح بين 30، إلى 5,83 (8).

على أية حال فمن المواد التي بدأت تستخدم حاليٌّا كبديل للرصاص المضاف لوقود السيارات (البنزين) مركب الأيثر ميثيل ثالث البوتايل (MTBE) الذي يضاف للوقود بنسبة 7 إلى 12 في المائة.

وموضوع هذا المقال لا يتعلق بهذا المركب وأخطاره الصحية التي بدأت تتكشف لنا والتي جعلت ولاية فلوريدا الأمريكية تقوم بوقف استخدامه مع نهاية العام الحالي، وإنما يتعلق بإلقاء الضوء على العوامل الطبيعية التي أودعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ لحمايتنا من أخطار الرصاص الذي يقذف في البيئة من المصادر المختلفة أو من عوادم السيارات التي تستخدم الوقود المرصص (المضاف له رصاص).

فما هي هذه العوامل؟ وكيف يحمينا الله بها من أخطار الرصاص؟

قبل أن نلقي الضوء على هذه العوامل، يجدر بنا أن نتعرف على حقيقة إتاحة العناصر والمواد وتقييدها.

إذ ربما يتعجب أحدنا إذا قلنا له إن وجود العناصر والمواد الضارة السامة بكميات كبيرة جدٌّا في البيئة قد لا يكون له ذلك الأثر الضار المتوقع منه، فوجود هذه العناصر والمواد بصورة مقيدة غير متاحة للامتصاص يماثل تقريبًا عدم وجودها، ونتعرف فيما يلي على مزيد من هذه الحقيقة.

إتاحة وإمساك العناصر:

كل من يدرس علم التسمم البيئي Environmental Toxicology أو علم التلوث البيئي ـ لا بد له أن يتعرف على حقيقة إتاحة وإمساك العناصر للكائنات الحية، هذه الحقيقة لا تختص بالعناصر والمواد الضرورية للحياة فقط؛ وإنما تشمل المواد والعناصر غير الضرورية للحياة، أي العناصر والمواد السامة والمهلكة، ولا بد للدارس أن يعرف متى تستفيد أجسام الكائنات الحية من المواد النافعة، ومتى تتضرر من المواد الضارة.

وقد ألقينا الضوء على هذه الحقيقة في الجزء الأول من كتاب (وجوه متنوعة من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) (زللي، 1418هـ)، متتبعين الإتاحة والإمساك في النباتات كمثال يوضح هذه الحقيقة.

فعلى سبيل المثال، إن وجود المواد الضرورية لحياة النباتات وتوفرها بقدر عظيم في البيئة التي تنمو عليها قد لا يعني شيئًا لنموها وازدهارها، فهناك آليات وعمليات وتفاعلات تتم في البيئة قد تمسك بالعناصر والمواد النافعة، وتجعلها في صورة مقيدة غير متاحة للامتصاص، فإذا لم تدخل هذه المواد بواسطة الماء في داخل أجزاء النباتات وتختلط بخلاياها وأنسجتها، فإن النباتات لا تستفيد من وجود ووفرة هذه المواد النافعة في البيئة التي تعيش فيها؛ لذا فقد نلاحظ أنه على الرغم من توفر المواد الضرورية لحياة النباتات بكميات كبيرة في البيئة؛ إلا أنها تفتقر إليها، ويرجع ذلك لوجود هذه المواد في صورة غير متاحة للامتصاص بالقدر المناسب، ومثل النباتات في ذلك كمثل الإنسان الذي يظل في حجرة ممتلئة بالمال ولكنه لا يملكه، فهو لا يستفيد منه بشيء، إلا إذا أتيح له قدر منه وتزداد الاستفادة من المال بزيادة القدر المتاح منه له. وهذا المثل يتشابه تمامًا مع وجود ووفرة العناصر والمواد المختلفة وإتاحتها أو عدم إتاحتها للكائنات الحية. فالنباتات ـ مثلاً ـ تنمو جذورها في الأرض، وتمتد فروعها وأوراقها في الهواء، وفي الأرض والهواء تتوفر معظم العناصر والمواد التي يحتاج إليها النبات، فإذا أتيحت له هذه المواد ودخلت في النبات واختلطت بخلاياه وأنسجته، عندها يستفيد النبات ويزداد نموه ويترعرع وينتج الثمار والخضار، أما إذا لم تتح له هذه المواد فلا نفع عندئذ ولا استفادة منها بالشكل المناسب.

وعلى النقيض من ذلك فإن المواد الضارة أو المؤذية، إذا أمسكت وقيدت في الخارج (أي في التربة والبيئة التي تعيش عليها النباتات) ولم تدخل في داخل النباتات وتختلط بخلاياها وأنسجتها فإن النباتات لا تتضرر أو تتأذى منها.

والحقيقة التي نود أن نلفت إليها الانتباه هو أن استفادة النباتات من المواد المفيدة أو تضررها من المواد المؤذية أو المهلكة لا يتم إلا بعد أن تدخل المواد داخل النباتات وتختلط بخلاياها وأنسجتها.

وحقيقة الإتاحة والإمساك نجد الإشارة إليهما في آيتين من آيات القرآن العظيم وهما:

الآية الأولى:

في الآية (24) من سورة يونس يقول المولى ـ سبحانه وتعالى:

(
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ...
)

نجد أن المشاهد والأحداث المترتبة على نزول الماء من السماء تتمثل في أن النباتات تستفيد من هذا الماء وتخضر ويزدهر نموها مع مرور الوقت. والمشهد الجميل الذي تشير إليه هذه الآية، نجده متمثلاً في اختلاط المواد النافعة بخلايا وأنسجة النبات، وذلك بواسطة الماء.

فكلنا يعرف أن النباتات كي تنمو ويزدهر نموها تحتاج إلى كثير من العناصر والمواد والتي توجد غالبًا في التربة بوفرة عظيمة، لكن هذه الوفرة لا تفيد النبات إذا كانت المواد والعناصر موجودة في التربة بصورة غير متاحة للامتصاص.

ولو رجعنا إلى ما ذكرناه تحت عنوان الإتاحة والإمساك - لأدركنا أن استفادة النبات من العناصر والمواد الموجودة في التربة تتم بعد أن تختلط هذه المواد بأنسجة النبات التي تكوّن أوراقه وفروعه وجذوره، فكيف يتم تحرير العناصر والمواد من التربة وتحويلها من صورة غير متاحة إلى صورة متاحة يمتصها النبات بسهولة.

إن السبيل إلى ذلك هو الماء بالطبع، إذ إن قابلية الماء لإذابة كثير من المواد الحيوية الكيميائية ترجع إلى تركيبه الكيميائي، فالماء يذيب معظم الأملاح المتبلورة بسهولة، كما يذيب الماء كثيرًا من المركبات العضوية الحيوية المحتوية على المجموعات الأمينية كبعض البروتينات مثلا.

وتلك التي تحتوي على مجموعات عضوية (كربو كسيلية) مثل بعض الأحماض العضوية. ويتميز الماء أيضًا بقدرته على إذابة المواد السكرية، والكحولية البسيطة.

وبهذا تذوب العناصر والمواد الضرورية لحياة النبات النازل من السماء وتصبح في صورة متاحة للامتصاص، فيمتصها النبات بسهولة ويذهب بها إلى أنسجته في جميع أجزائه وتختلط بها فيخضر ويزدهر نموه، وتزدان به الأرض.

الآية الثانية:

في الآية 45 من سورة الكهف، يقول المولى - سبحانه وتعالى: (
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا
).

لو تأملنا في آيات القرآن الكريم المتعلقة بنزول الماء من السماء ـ للاحظنا أن جميع هذه الآيات القرآنية تشير إلى أن الماء النازل من السماء هو لإحياء الأرض، وإنبات النباتات، وتزيين الأرض بالأشجار والأعشاب، حتى تصبح حلة خضراء تسر النظر وتبهج النفس، ولكننا عندما نتأمل في هذه الآية الكريمة نلاحظ أن الأمر على النقيض من ذلك، فهي تشير إلى أن ماء ينزل من السماء، وبمجرد أن يعم أجزاء النبات، ويدخل فيه، ويختلط بأنسجته وخلاياه، فإن ذلك يؤدي إلى هلاكه وتحطمه.

ونلاحظ في هذه الآية الكريمة أن كلمة (فَاخْتَلَطَ) التي ورد ذكرها في الآية الأولى من سورة يونس قد تكررت هنا، وتكرار هذه الكلمة، وفي الموضع بالذات يكشف لنا عن مضمون حقيقة الإتاحة والإمساك الخاصة بالمواد الضارة المؤذية. وسنلقي الضوء على ذلك بعد أن نستعرض أولاً كيفية هلاك النباتات بواسطة الماء النازل من السماء. هذا الماء لا ينزل على هيئة ماء نافع، بل ينزل على هيئة ماء ملوث بالعناصر والمواد الضارة أو على هيئة حمض (أسيد) حارق متلف، وبهذا يكون الماء النازل من السماء في هذه الحالة عبارة عن ماء ملوث يهلك النبات ويخرب المنشآت. ولعل الأشجار والنباتات الخضراء من أبرز المستقبلات التي تتأثر مباشرة بماء الأمطار الملوثة بعد نزولها من السماء؛ إذ تهلك هذه النباتات بواسطة هذه الأمطار، ويأتي تضرر هذه النباتات على مراحل متعاقبة (زللي، 1415هـ) هي كالتالي:

1 ـ نزول الماء الحمضي أو الماء الملوث من السماء، وسقوطه على النباتات النامية في الحقول والغابات.

2 ـ تمتص خلايا النبات الماء الحمضي أو الماء الملوث، ويدخل هذا الماء بما يحتويه من مواد مؤذية وضارة في داخل النبات؛ فيختلط هذا الماء بخلاياه وأنسجته في الأجزاء المختلفة منه.

3 ـ يؤدي اختلاط المواد الضارة بخلايا وأنسجة النبات فورًا إلى تضرر وموت هذه الأنسجة؛ ومن ثم يهلك النبات ويموت بعد ذلك.

4 ـ تجف جميع أجزاء النبات، ويصبح سهل الكسر والتحطيم بواسطة الرياح.

ونريد أن نذكر هنا بالحقيقة العلمية التي أشرنا إليها سابقًا، وهي أن وجود المواد الضارة والقاتلة في البيئة التي يعيش عليها النبات لم يكن ليعمل على تضرر النبات وهلاكه لو لم تكن هذه المواد متاحة للنبات أن يمتصها، ولم تدخل هذه المواد داخل النبات وتختلط بخلاياه وأنسجته. فالملوثات والمواد الضارة على النبات إذا وجدت في البيئة التي يعيش عليها على هيئة أملاح أو مركبات غير قابلة للامتصاص ـ فإن ذلك لا يؤثر على النبات ولا يضره؛ لذا فإننا نجد أن تضرر أنسجة النبات يظهر فور دخول الملوثات داخل النبات وفور اختلاطها بخلاياه وأنسجته؛ فيهلك بعد ذلك النبات ويكون حطامًا تذروه الرياح.

ونجد أن مراحل تأثير الأمطار الحمضية والأمطار المحملة بالملوثات القاتلة والمهلكة تنسجم انسجامًا بليغًا مع الآية الثانية المتمثلة في الآية رقم 45 من سورة الكهف؛ (
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا
). وتظهر لنا بذلك صورة واضحة جلية من صور إعجاز القرآن الكريم التي تحاكي آياته عقول البشرية كلهم في كل زمان ومكان من وقت نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فعندما نقرأ ونتدبر في آياته ونتدبر في آيات الله الكونية نرى الانسجام والتوافق والتطابق المذهل؛ فنشعر وكأن القرآن ينزل الآن غضٌّا طريٌّا.

فعلى الرغم من ملاحظتنا أن جميع آيات القرآن الكريم تشير إلى أن الماء النازل من السماء يكون لإحياء الأرض وإنبات النبات، إلا أننا نلاحظ النقيض من ذلك في هذه الآية؛ إذ تشير إلى ماء ينزل من السماء، وفور أن يعم أجزاء النبات، ويدخل فيه، ويختلط بأنسجته وخلاياه، فإن ذلك يؤدي بسرعة إلى هلاكه وتحطيمه، ولم يكن مثل هذه الأمطار شائعًا في عهد النبوة. نعود الآن إلى موضوع الحماية الربانية من وجود الرصاص في بيئاتنا المختلفة.

كنا قد شرحنا بعض العوامل المتعلقة بهذا الشأن في الجزء الأول من كتاب (مقدمة لعلوم التلوث البيئي) ونوجز ذلك فيما يلي:

1 ـ ثقل وزن جزيئات الرصاص:

على الرغم من صغر حجم جزيئات الرصاص التي تخرج من عوادم السيارات والتي تتراوح أخطارها من 0,01 ميكرومتر إلى عدة ملليميترات، إلا أن هذه الجزيئات ثقيلة الوزن مما يجعل معظمها (60%) يهوي مباشرة فور خروجها من عوادم السيارة على الطريق نفسه أو على حافتيه، ولذلك فإن تربة جوانب الطرق والنباتات النامية حوله تتلقى النصيب الأكبر من الرصاص، ويبقى هذا الرصاص حبيسًا في بيئة جوانب الطرق أو النظام البيئي لجوانب الطرق، وتدل نتائج الدراسات والأبحاث أنه على بُعد عدة أمتار فقط عن حافتي الطريق فإن تركيزات الرصاص تنخفض بشكل فجائي وبشدة، الأمر الذي يبعد الإنسان عن التعرض إلى التركيزات العالية للرصاص؛ إن الإنسان لا يعيش على الطريق ولا حافتيه ـ وعامل الهُوِيّ يخلص الهواء من الجزء الأكبر من الرصاص الخارج من عوادم السيارات، ولا يبقى فيه إلا تلك الجزيئات الدقيقة للغاية والتي من صغر حجمها وخفة وزنها تبقى معلقة في الهواء وتنتقل إلى مسافات بعيدة جدٌّا عن مصدرها تتجاوز آلاف الكيلومترات، غير أن المولى ـ سبحانه وتعالى ـ قد تكفل بحمايتنا من جزيئات الرصاص الدقيقة هذه وغيرها من الجزئيات الأخرى الضارة عن طريق ترسيبها بواسطة العملية المعروفة باسم الترسيب والتي تتمثل في تجميع الجزئيات الدقيقة مع بعضها البعض، ليزداد حجمها ووزنها مع مرور الزمن فتترسب على سطح الأرض.

كما أن ماء الشرب والطعام قد يحتويان على تركيزات عالية من الرصاص تفوق كثيرًا تلك التي قد تظهر في هواء المناطق شديدة التلوث.

وعلى الرغم من أن بعض الدراسات تشير إلى وجود علاقة بين زيادة تركيز الرصاص في الدم وبين تركيزه في الهواء إلا أن هناك دراسات أخرى لا تربط بين هذين الأمرين، فربما تدخلت عوامل ومصادر أخرى عملت على زيادة الرصاص في الدم.

فعلى سبيل المثال تشير دراسة أجريت في فنلندا إلى أن تركيزات الرصاص في دم أطفال المدارس في المناطق الريفية وفي المدن لا تظهر أي اختلافات واضحة بينهم؛ إذ استنتج من هذه الدراسة أن الرصاص المنطلق من عوادم السيارات ليس له تأثير واضح على تركيز الرصاص في الدم. وفي دراسة مقارنة لدراسة علاقة مستويات الرصاص في البنزين ومستوياته في الدم بالنسبة لسنة 1967م مع سنة 1987م إلى 1982م في الولايات المتحدة ـ اتضح أن الرصاص في الدم قد تناقص على الرغم من أن كمية الرصاص في البنزين لم تنقص خلال فترة المقارنة.

وفي استطلاع حول تركيز الرصاص في دم أطفال المدارس في دول مختلفة من العالم لملاحظة هل هناك علاقة بين كمية الرصاص المضافة في البنزين وبين تركيزات الرصاص في دم الأطفال لم يستدل على وجود هذه العلاقة.

كما أوضحت دراسة قامت بها مصلحة الأرصاد وحماية البيئة في جدة عدم وجود علاقة بين تركيز الرصاص في الهواء مع تركيزه في دم أطفال المدارس. وأشارت معظم الدراسات إلى أن من أسباب نقص الرصاص في الدم ـ نقص كمية الرصاص في الغذاء والماء وفي مواد الطلاء، وزيادة الوعي بأخطاره.

2 ـ  غسل الهواء:

تغسل ملوثات الهواء الجسمية (أي الجسيمات الدقيقة الملوثة للهواء وفيها جزيئات الرصاص الدقيقة)، والغازية بواسطة صور الماء المختلفة النازلة من السماء، وهي من أكفأ وأسرع آليات الإزاحة الهوائية، أو ما نسميه بآليات التوازن والتنقية الذاتي، وقد وضحنا في مقال (أسيد ينزل من السماء يهلك النبات ويخرب المنشآت) أن هذه الحقيقة قد أشار إليها الهدي الإسلامي الحنيف بشكل دقيق معجز قبل أن يكشف ذلك علماء هذا العصر.

3 ـ  تقييد الرصاص في التربة:

كنا قد ذكرنا سابقًا أنه لا يمكن أن نجد في الاستفادة من العناصر والمواد النافعة، أو يحدث الضرر من وجود العناصر والمواد الضارة السامة في البيئة ـ ما لم تكن هذه أو تلك العناصر والمواد حرة متاحة للامتصاص، أما لو قيدت بأي وسيلة، فإنه لا نفع من تلك النافعة، ولا ضرر من تلك الضارة المؤذية حتى لو وجدت بتركيزات عالية جدٌّا.

ولقد حمانا المولى ـ سبحانه وتعالى ـ من وجود الرصاص في التربة بعملية تقييده وترسبه والإمساك به بواسطة عمليات كثيرة لا مجال لذكرها، إذ تدل الدراسات أنه بالرغم من أن النظام البيئي في جوانب الطريق يتلقى بصفة مستمرة كميات متزايدة من الرصاص، أي أن هذه الكمية غالبًا ما تكون غير متاحة للامتصاص من قبل النباتات النامية؛ إذ من المعروف أن الرصاص الذائب بمجرد أن يتصل بالتربة يترسب مباشرة ويصبح غير متاح للامتصاص بقدر كبير، فقد دلت إحدى الدراسات على أن من أملاح الرصاص الذائبة كأكسيد الرصاص بمجرد أن يتصل بالتربة يترسب مباشرة، في حين أن أملاحًا أخرى ككلوريد الرصاص يترسب معظمه في خلال ساعة.

كما أن معظم النباتات تستطيع أن تتحمل التركيزات العالية من الرصاص وتنمو بصورة طبيعية، فعلى سبيل المثال كثيرًا ما نجد أن النباتات البرية تنمو بصورة طبيعية على جوانب الطرق حيث ترتفع فيها تركيزات الرصاص، فمثلاً نجد نباتات تنوم أونكد Chenopldium murale، ونباتات سندار Amaranthus ascendes، تنمو بكثرة على جوانب الطرق بجدة، ولقد عرضت هذه النباتات في المعمل لتراكيز مختلفة من الرصاص تراوحت بين 0.25 إلى 3200 مكجم/جم دون أن تظهر تأثيرات واضحة على النمو(8) إذ إن الرصاص في حد ذاته بسيط الحركة والانتقال في التربة، كما أنه يتراكم بشكل رئيسي في جذور النباتات وأجزائها السفلية(2).

ويشاء المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعل المواد العضوية الموجودة في سطح التربة تحول دون وصول الرصاص إلى المياه الجوفية بكمية كبيرة ليحمينا بذلك من أخطار تلوث الماء بالرصاص، فتدل الدراسات والأبحاث أن معظم الرصاص المترسب على سطح التربة يحتجز في المواد العضوية، ونظرًا لعدم ذوبانه يظل ويبقى خلال الخمسة سنتيمترات الأولى من سطح التربة.

4 ـ احتجاز الرصاص في الجذور:

من وسائل الحماية التي حبانا الله بها من أخطار الرصاص أن جعل النباتات التي تنمو في بيئات ذات تراكيز عالية من الرصاص تحتجز الرصاص الذي تمتصه في جذورها التي تهمل عادة ولا تؤكل، ولا يصعد إلى الجهاز الخضري المأكول عادة إلا القدر البسيط جدٌّا(8) وهذا يعني أن الإنسان يبتعد عن الكمية العظيمة من الرصاص التي امتصها النبات من التربة وأودعها في شعيراته الجذرية. غير أن أحدنا قد يقول إن هناك نباتات كثيرة تؤكل في الأصل جذورها كاللِّفت، والجزر، والفجل.

وهنا نقول: إن المولى ـ سبحانه وتعالى ـ قد حمانا أيضًا من ذلك بأن جعل الرصاص الممتص بواسطة الجذور والمحتجز فيها يكون معظمه في تلك الفروع والشعيرات الجذرية الدقيقة التي يتخلص الإنسان منها ولا يكون في أصل الجذر المأكول إلا القدر اليسير، وبذلك يتخلص الإنسان من القدر العظيم من الرصاص الذي امتصه النبات.

5 ـ  دفن العناصر الضارة في الأجزاء الميتة من النبات:

تدل نتائج الدراسات والأبحاث الحقلية والمخبرية أن الأوراق الميتة من النبات تمتص الرصاص أكثر من الأوراق الحية، وأن ذلك ربما يعود على آلية نشطة تقوم بها النباتات لعزل الرصاص في هذه الأجزاء(2)، وقد وجد راتكلف وزميله بيبي(6) أن الأجزاء الميتة من النباتات والأعشاب الموجودة على جانبي الطرق تجمع أربعة أضعاف ما تجمعه الأجزاء الحية من الرصاص، كما وجد أن الأوراق الميتة تمتص الرصاص من محلول لنترات الرصاص أكثر مما تمتصه الأوراق الحية. 

6 ـ  اختيار العناصر النافعة:

من المعجزات الإلهية المذهلة أن جعل في النباتات القدرة العجيبة على انتقاء واختيار العناصر الأساسية للحياة من المحلول الذي يحتوي على عناصر ذائبة نافعة وضارة، فلقد دلت نتائج الأبحاث التي أجريت على نباتات المحاصيل أن هذه النباتات من شأنها أن تنتقي وتختار الخارصين (الزنك) والنحاس ـ وهما من العناصر المطلوبة للوظائف الحيوية المختلفة ـ وتنقلهما إلى البذور والحبوب التي غالبًا ما تؤكل.

في حين أنها تستبعد انتقال الكادميوم والرصاص ـ وهما من العناصر الضارة بالنبات والحيوان والإنسان ـ إلى هذه الأجزاء، وقد فسرت هذه الظاهرة بأنها يمكن أن تكون كنتيجة لامتصاص انتقائي للخارصين والنحاس بواسطة الخلايا الوعائية الناقلة خلال أنسجة التكاثر التناسلية في النباتات.

7 ـ نسبة الامتصاص في الجهاز الهضمي:

يُعدّ تلوث الطعام والشراب بالرصاص من أعظم المصادر التي تسهم في سرعة تراكمه في أجسامنا مما يؤدي إلى ظهور مشكلاته الصحية بسرعة، ولقد حمانا المولى ـ سبحانه وتعالى ـ بأن جعل نسبة امتصاص الرصاص من الجهاز الهضمي قليلة، فهي تتراوح بشكل نموذجي بين 10% إلى 15% من كل الكمية الداخلة فيه، ولكن نسبة امتصاص الرصاص من الجهاز الهضمي يمكن أن تزداد بشكل كبير جدٌّا لدى الحوامل والأطفال والمرضى الذين يعانون من نقص الحديد وأولئك الذين يمارسون عملية تجويع الجسم(1).

8 ـ آليات أخرى:

هناك آليات أخرى منحنا الله إياها ـ من شأنها أن تذهب عنا قدرًا من الرصاص الذي يدخل في أجسامنا، ولا يتسع المجال هنا لشرح هذه الآليات، وتتمثل بعض هذه الآليات بإيجاز في أن الجسم يدفن الرصاص وغيره من بعض العناصر الضارة في الشعر والأظافر. وهنا يتكشف لنا شيء آخر من بعض الحكمة في التشريعات الإسلامية في الحث على إزالة شعر العانة والإبط وتهذيب شعر الرأس وتقليم الأظافر بصفة مستمرة، إذ يذهب عن الجسم ذلك الرصاص وتلك المواد الضارة التي ترسبت في الشعر والأظافر فيتخلص الجسم منها بهذه الإزالة.

وأود أن أشير في نهاية هذا المقال إلى أن آليات التوازن والتنقية الذاتية التي أودعها المولى ـ جلت قدرته ـ في كل شيء حي وغير حي لحمايتنا من أخطار جميع المواد والأشياء تسير دائمًا وأبدًا وفق حدود معينة محسوبة موزونة، غير أن الإنسان إذا تجاوز هذه الحدود بنشاطاته المختلفة،

فإن ذلك يمكن أن يؤثر بشكل واضح على كفاءة هذه الآليات الأمر الذي قد يعرض الإنسان إلى الأخطار.

كما أننا لا نريد أن نوجه القارئ إلى أن وقود السيارات المحتوي على الرصاص هو الوقود الأمثل، وأنه يجب علينا الاستمرار في استخدام هذا النوع من الوقود، بل إنه يلزم علينا.

وكما ســبق أن أشرنا في مقدمة هذا المقال أن نعمل على وجود الوقود الخـــالي من الرصاص كي نجنب البشــــرية مصــــدرًا من مصادر تلوث البيئة بالرصــــاص، حتى وإن كان هـذا المصدر غالبًا ما يكون حبيسًا في بيئات الطـــرق، وأن نبحث عن البــديل الذي لا يؤثر على صحة الإنسان وبيئته، إذ أشـــرنا أن البـديل الجديد (MTBE) الذي أخذ يستخدم حاليٌّا في كثير من دول العالم بدأت تظهر بعض مشكلاته الصحية والاقتصادية والتي ربما تجاوزت وتعدت تلك الأخطار الصحية الناتجة من التعرض للرصاص.

وقد تكون إحدى مشكلات بديل الرصاص الحالي (MTBE) زيادة استهلاك الوقود الأمر الذي يؤدي إلى انطلاق كميات أكبر من المواد اليهدروكربونية المسببة لأمراض السرطانات ـ أعاذ الله الجميع منها ـ إضافة إلى الأخطار العظيمة التي تأتي من التعرض إلى البديل نفسه، ولكن هي دعوة إلى الالتفات إلى المصادر الأخرى الرئيسية التي تصاحبنا في حياتنا اليوميــة في أماكن معيشــــتنا وأماكن العمل التي نعمل فيها والتي من شأنها أن تعمل على دخول كميات ملحوظة من الرصاص في أجسامنا وأجسام أطفالنا خاصة.

وحتى نبتعد عن استيعاب الرصاص من هذه المصادر ننصح بالآتي:

نصائح وإرشادات:

1 ـ التخفيف قدر الإمكان من تناول الأطعمة الجاهزة المحفوظة في المعلبات المعدنية، إذ تعمل مثل هذه المصادر على استيعاب كميات ملحوظة من الرصاص الذي يتسرب في المواد الغذائية المحفوظة فيها من جدار العلبة ومن مادة اللحام التي تعمل على لحم غطاء العلبة بها.

2 ـ الحذر من الإفراط في استخدام صبغات الشعر ومواد التزيين الأخرى التي تحتوي على الرصاص.

3 ـ الحذر من ترك الأطفال يعبثون في كسرات الخشب المطلية أو كسرات الطلاء الساقطة من الجدر؛ فالكسرات قد تحتوي على كميات عالية جدٌّا من الرصاص.

4 ـ عدم الاعتماد في تبريد مياه الشرب على البرادات ذات النوع الرديء، والتي يكون خزان الماء فيها مصنوعًا من الزنك وملحومة أجزاؤه بمادة اللحام المعدنية المحتوية على الرصاص. فهذا النوع قد يحرر في ماء الشرب كمية كبيرة من الرصاص.

5 ـ الحذر من ترك الأطفال يعبثون في البطاريات الجافة منتهية الصلاحية.

6 ـ الحذر من بعض المستلزمات المدرسية مثل الأقلام السحرية، ومواد التلوين.

7 ـ توعية أطفالنا بأخطار الرصاص والسبل المثلى للتعامل مع الأشياء الكثيرة المتنوعة التي تصاحبهم في حياتهم اليومية والتي قد يحتوى بعضها على الرصاص.



1.    DeRoos, F.J. Smelters and Metal Reclaimers, in: Occupational, Industrial and Environmental Toxiclology, Michael I. Greenberge (ed.), pp291 - 301

2.    Ernst, W.H.O. and Bast - Cramer, W.B. (1980). The Effect of Lead Contamination of Soils and its Accumulation in pollen. Plant Soil 496 - 57:491

3.    Hodges, L., (1977), Environmental Pollution, 2nd Ed. Holt, Rinehart and Winston, New York,U.S.A

4.    Johnson, D.L. and Bretsch, G.K. (2002), Soil Lead and Children s Blood Lead Levels in Syracuse, NY, USA, Environmental Geochemistry and Health 24 (4): 375 - 385

5.    Kubota,J., Welch,R.M. and Van Campen,D.R. (1992), Partitioning of Cadmium, Copper, Lead and Zinc Amongst Above - Ground parts of Seed and Grain Crops in Selected Locations in the USA, Environmental Geochemistry and Health, 14(3): 91 - 100

6.    Ratcliffe, D. and Beeby, A. (1980) Differential Accumulation of Lead in Living and Decaying Grass on Roadside Verges. Environmental Pollution, 23:279 - 286

7.    Succop, P., Clark, C. - Y. Tseng, Bornschein, R. and Chen, M., (2001) Evaluation of Pubic Housing Lead Risk Assessment Data.

8.    Zolaly, A.B.H., (1987) Environmental Geochemistry and Health 23(1): 1 - 15