logo.png
الموت المقدر (الموت الخلوي المبرمج)
طباعة



الموت المقدر (الموت الخلوي المبرمج)

Programmed cell death  (Apoptosis)

د. مجاهد محمد أبو المجد


يقوم الموت الخلوي المبرمج (المقدر) بدور أساسي في النمو والاتزان البيولوجي للكائنات عديدة الخلايا. الموت الخلوي ليس دائماً. كما كان مفترضاً من زمن بعيد. سيئاً بالنسبة للجسم بل هو في الحقيقة أحد الدعامات الأساسية لنمو المخلوقات عديدة الخلايا، والمخلوقات عديدة الخلايا تكسب شكلها النهائي بالإزالة الانتقائية التي بالإمكان التنبؤ بها لخلايا معينة فالشرغوف (أبو ذنيبة) مثلاً يزول ذيله أثناء تحوله إلى ضفدع، وتتلاشى في الثديات أعداد لا حصر لها من العصبونات (Neurones) خلال تنامي الجملة العصبية لتكسب شكلها النهائي (مجلة العلوم، المجلد 13، العددان 6 ، 7 يونيه ويوليو 1997م).

كما عين المجهريون علامات نسيجية تميز هذا الموت الخلوي الفسيولوجي المقدر عن التخرب العارض أو ما يسمى التنخر الخلوي (Necrosis) ويحدث الموت التنخري عندما تصاب الخلية بصورة بالغة بلطم فيزيائي (Physical agent) أو حرمان من الأكسجين أو التغذية على سبيل المثال وذلك يؤدي إلى انتفاخ الخلية وتورمها وتمزقها، أما الخلية التي تعاني الاستموات المقدر أو المبرمج فإنها تنكمش وتنسحب عن جارتها وسرعان ما تبدو وكأنها تغلي فتتشكل فقاعات blebs على السطح ث تختفي وتحتفظ العضيات الداخلية ببنائها، ولكن النواة تتغير تغيرات درامية ثابتة أثناء الاستموات المقدر، وأكثر هذه التغيرات وضوحاً هو أن كروماتين النواة (DNAدنا) يتكثف مشكلاً كتلة واحدة أو أكثر بالقرب من غلاف النواة، وغالباً ما تلتهم هذه الخلية بواسطة الخلايا المجاورة من دون أن تستثير استجابة التهابية (Infammatory response)، والخلايا المستموتة تقديرياً التي لا يتم ابتلاعها فإن النواة تتفتت إلى عدد من الأجسام المستموتة (Apoptotic bodies) وتعتبر هذه علامات شاهدة على حدوث هذا النوع من الموت.



وهكذا يتضح الآن جلياً وبكل وضوح أن هناك موتاً آخر يختلف عن الموت الكلي للكائن الحي ويمكن أن يشمله قوله تعالى (
نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في مالا تعلمون
) الواقعة 60 ـ 61.

ويرى البيولوجيون أن هذا النوع من الموت يقود بدور أساسي في التنامي الجيني للكائنات عددية الخلايا وأن برنامج هذا الموت تصنع أنظمته في أثناء اللحظات الأولى لخلق الأجنة. وقدر الأمر أي دبره وسواه.

ويعتبر البيولوجيون الآن أن الموت الخلوي المبرمج (Programed cell death) ما هو إلا نوع من أنواع الموت المدبر والمقدر الذي يساهم في تنشئة الكائنات الحية وتسويته.

وأدلة التقدير في الموت الخلوي المبرمج:


وجود عائلتين من الجينات تتحكم في سيرورة الموت (2-BCL) (ICE) المجموعة الأولى من الجينات تنظم عملية الاستموات حسب احتياجات الجسم والمجموعة الثانية تشرف على تصنيع بروتينات الموت والتي تعرف باسم مثيلة البروتيزات ICE (ICE like proteases) .

يظهر ترتيب هذا النوع من الموت بصورة مقدرة ومرتبة على أعلى مستوى في الخلايا المناعية أثناء التنامي البشري في مراحله المختلفة فمثلاً الخلايا التائية تنشأ عن أسلافها في نقي العظام وتهاجر الخلايا غير الناضجة إلى غدة التوتة (Thymus) حيث تعرف بالخلايا التوتية (Thymocytes) ويموت 90% من هذه الخلايا في التوتة ويبقى 10% فقط تنضج وتخرج للدورة الدموية (تقدير نسبي واضح) لتساهم في حراسة الجسم.

الخلايا التائية المتفاعلة مع الذات (Self antigens) تموت بالاستموات الخلوي المقدر حيث لو تركت لساهمت في تخريب الكيان البشري تخريباً ذاتياً، والخلايا التي لا تستطيع التفاعل مع المثيرات الغريبة (Foreign antigens) تموت أيضاً موتاً خلوياً منظماً ومبرمجاً (تقدير كيفي للموت) حيث إنها لا تكون مفيدة للجسم.

التجديد المستمر لخلايا الجسد بطريقة مرتبة ومنظمة فجميع الخلايا والأنسجة الداخلية تتبدل دوماً بطريقة مبرمجة وفق قوانين رائعة وضعها الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ في كل أجهزة النسيج البشري.

وهكذا يتضح الآن جلياً لدى علماء البيولوجي وجود نوع مقدر من الموت.

وآليات الموت المقدر وأنظمته يخلقها الله ـ سبحانه وتعالى ـ منذ اللحظات الأولى لتكوين النطفة الأمشاج وبالذات في مرحلة التقدير التي تربت فيها الصفات الوراثية من خلال تفاعل الجينات الذكرية والأنثوية وجينات هذا النوع من الموت معروفة باسم (2- BCL) (ICE)، ولهذا فإن هذا النوع من الموت الخلوي المقدر ظاهرة ملازمة للكائن البشري خاصة في مراحل النشأة الأولى، وتعجب عندما تطالع آيات سورة الواقعة وهي تتكلم عن الموت المقدر فنجد أن الآيات السابقة لآية الموت (57 ، 58 ، 59) تحدث عن النشأة الأولى: (
نحن خلقناكم فلولا تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
) والآية التالية لآية الموت (62) تتحدث عن النشأة الأولى أيضاً: (
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
) وبذلك يمكن فهم هذه الآيات الكريمة فإن القرآن يشير إلى أن هذا الموت له ارتباط بالنشأة الأولى للإنسان.

كما يساهم هذا النوع من الموت المقدر في تسوية الجنين وتعديله كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال (
خلقك فسواك فعدلك
).

يقول الطبري في جامع البيان: وقوله: (
على أن نبدل أمثالكم
) أي على أن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم فيجيء الله بآخرين من جنسكم، وقوله: (
وننشئكم فيما لا تعلمون
) يقول: ونبدلكم عما تعلمون من أنفسكم فيما لا تعلمون من الصور. يقول علماء البيولوجي: عن هذا النوع من الموت (الخلوي المبرمج) شاهد على مقدرة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ على تخليق أنسجة كاملة من الخلايا المستموتة تقديرياً فعدسة العين تتشكل أثناء التنامي الجنيني من خلال استمواتية استبدلت محتوياتها الداخلية ببروتين الكرستالين الشفاف وخملات المعى تتكون من خلايا استمواتية عند قاعدة هذه الأصابع ثم تهاجر هذه الخلايا عبر أيام عديدة إلى القمة لتساعد في تكوين الطبقة الخارجية للخملات التي تستخدم في عملية امتصاص الغذاء وتستمر هذه العمليات بصورة متفاوتة عبر مراحل العمر المختلفة للكائن البشري. وهذا يدل دلالة واضحة على تواصل وتعاقب وتتابع عمليتي الموت والحياة بصفة مستمرة في الكائنات الحية، فبعض الخلايا المستموتة لا تفني ولكنها تستخدم في تكون نسيج حي ويمكن أن يشمل قوله تعالى: (
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
) هذا النوع من استخدام الفعل المضارع (يخرج) في القرآن الكريم يدل على استمرار وتعاقب إخراج الحي من الميت والميت من الحي، كما ثبت ذلك واضحاً من دراسة هذا النمط الخلوي للموت.



هل الموت مخلوق؟؟


أعتقد أنه أصبح واضحاً لدى البيولوجيين الآن أن الموت مخلوق وهذه الحقيقة لم تعرف بالضبط إلا بعد منتصف القرن العشرين وبالتحديد بعد السبعينيات الميلادية ولكن القرآن يشير منذ أكثر من أربعة عشر قرناً إلى أن الموت مخلوق في قوله تعالى: (
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور
).

وآليات الموت وأنظمته واضحة مدروسة الآن، من جينات ومستقبلات خلوية وبروتينات للموت داخل الخلايا.

*تصنع معظم الخلايا ـ إن لم يكن كلها ـ مجموعة من البروتينات على شكل أنزيمات تعمل كأسلحة تدمير ذاتية للخلية ولكن الخلية تفرز مثبطات لهذه الأسلحة التدميرية ويمكن وضع حدث الاستموات المقدر موضع الحركة بواسطة منبهات كيميائية من داخل وخارج الخلية.

والعجيب أن آليات عضيات الموت تكون أقوى بيولوجيا في مراحل نشأة الكائن الحي الأولى حيث إن 90% من خلايا الجهاز المناعي تموت موتاً مقدراً ولا يخرج للدورة الدموية سوى 10% فقط كما تتلاشى أعداد لا حصر لها من العصبونات (Neurones) خلال تكوين الأعصاب، وهكذا يتضح إعجاز آخر للقرآن الكريم في ذكر الموت قبل الحياة في الآية الثانية من سورة الملك (
الذي خلق الموت والحياة
). 
 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/69-Tenth-Issue/579-The-estimated-death-(-apoptosis-)