logo.png
الحمى القلاعية في أوروبا
طباعة



الحمى القلاعية في أوروبا

د. محمد دودح


مازالت الأوبئة تتحدى الإنسان في العصر الحديث وتستنفر قدراته للبحث عن وسائل فعالة لمغالبتها، وفي الفترة الأخيرة نال وباء الحمى القلاعية في بريطانيا وأوربا اهتمام الإعلام العالمي، فما هي أبعاد هذا الوباء؟

من الواضح أن تسميته بالحمى القلاعية تختص بإبراز أهم أعراضه، والحمى عرض مشترك لأمراض عديدة ميزتها الثورة العلمية حديثاً وفق أسبابها سواء كانت غير معدية أو معدية سببتها كائنات كالطفيليات والبكتيريا والفيروسات، أما القلاع فهو بالمثل عرض مصاحب للحمى يزيد المرض تمييزاً، ومن دلالاته في المصادر العربية طلوع بثرات وظهور تشققات في منطقة الفم تخص حيوانات الرعي، وقد تؤدي لهلاكها، فهو عند العرب: الطين الذي ينشق إذا نضب عنه الماء فكل قطعة منه قلاعة.. والقلاعة صخرة عظيمة وسط فضاء سهل، والقلاع والخراع واحد وهو أن يكون البعير صحيحاً فيقع ميتاً، والخراعة الرخاوة في الشيء، والخراع داء يصيب البعير فيسقط ميتاً ولم يخص ابن الأعرابي به بعيراً ولا غيره، إنما قال: الخراع أن يكون صحيحاً فيقع ميتاً، والخراع الجنون..

وربما خص به الناقة فقيل الخراع وهو جنونها وناقة مخروعة، ( وقال ) الكسائي: من أدواء الإبل الخراع وهو جنونها وناقة مخروعة، وقال غيره: خريع ومخروعة، وهي التي أصابها خراع، وهو انقطاع في ظهرها فتصبح باركة لا تقوم، قال: وهو مرض يفاجئها فإذا فإذا هي مخروعة، وقال شمر: الجنون والطوفان والثول والخراع واحد، قال ابن بري: وحكى ابن الأعرابي أن الخراع يصيب الأبل إذا رعت الندي في الدمن والحشوش.. لأن الخيل لا يضرها الندى إنما يضر الإبل والغنم، والثول شبه جنون في الشاة، فلا تتبع الغنم وتستدير في مرتعها، والثولاء من الشاةوغيرها المجنونة وقولهم في تفسيرها التي بها ثؤلول غلط، والقلاع من أدواء الفم والحلق معروف وقيل هو داء يصيب الصبيان في أفواهم وبعير مقلوع إذا كان بين يديك قائماً فسقط ميتاً، والعليق.. نبت يتعلق بالشجر مضغه يشد اللثة ويبرءئ القلاع، وهكذا يبدو أنهم عرفوا القلاع ووصفوه بل حاولوا علاجه.

ولم تجد المصادر الحديثة إلا أن تسمي هذه الحالة بأعراضها كذلك بطريقة تكاد تماثل المصادر العربية القديمة، وإذا التزمنا الترجمة الحرفية فهو مرض القدم والفم ( FMD ) foot-and-mouth disease، ولعل الاسم الآخر أكثر تحديداً لأنه يبين اختصاص المرض بالحيوانات ذوات الحافر وهو مرض الحافر والفم Hoof-and-mouth، ومع ذلك تحتاج هذه التسمية الاصطلاحية لمزيد من الشرح لتستوفي تمييز المرض.

وينبغي تمييز الحمى القلاعية عن مرض حيواني آخر يدعي جنون البقر mad cow disease يصيب أدمغة الأبقار ويجعل سلوكها شاذاً قبل أن يقضي عليها، وتبدو الأنسجة العصبية مثقبة كالإسفنج ومن هنا جاءت تسميته بالإصابة الدماغية الإسفنجية في البقر ( BSE ) Bovine Spongiform Encephalopathy، وهناك مرض آخر شبيه الاسم مرض اليد والقدم والفم ( HFMD ) hand-foot-mouth disease، وهو مرض يصيب الأطفال بالحمى وفقدان الشهية قبل ظهور الطفح في تلك المناطق التي يعينها اسمه يسببه فيروس يدعى كوكساكي Coxsackie> نسبة إلى منطقة بولاية نيويورك اكتشف فيها ذلك الفيروس، وهو عادة مرض بسيط الأعراض سريع الزوال ولكنه قد يؤدي إلى مضاعفات وخيمة كالتهاب أغشية المخ.

ومرض الحمى القلاعية من أهم الأمراض الوبائية في الحيوانات لما له من تأثير اقتصادي شديد نتيجة لتدمير مزارع الحيوانات وتعطيل تجارة اللحوم والألبان ومنتجاتهما، والمرض شديد الخطر سريع الانتشار سببه فيروس من نوع فيروس الفم aphthovirus من عائلة تدعى بيكورنا فيريدي picornavirdae، ويوجد منه سبعة أنواع مصلية متميزة ( A, O, C, SAT1,SAT2,SAT3,Asia )، وهؤلاء يصيب عادة غلا الحيوانات مشقوقة الحافر cloven-hoofed كالبقر والجاموس والأغنام والماعز والخنازير، وكذلك الحيوانات البرية مثل الغزلان والظباء والثيران الوحشية والتي قد تمثل مستودعاً لتصدير المرض من حين لآخر على الحيوانات الأليفة، وأما الجمال وأشباهها مثل اللمة فهي أقل تعرضاً، والخيول لا تصاب ولكنها يمكن أن تنقل الفيروس العالق بأقدامها ومعداتها بين المزارع، ومثلها الكلاب والقطط والفئران والطيور لا يصيبها الفيروس ولكن يمكنها نقله إذا علق بها، وكذلك لا يصاب الإنسان عادة لكنه قد ينقله إذا علق بملابسه وأدواته.
وفترة حضانة فيروس الحمى القلاعية FMD حوالي 2 ـ 14 يوماً يتكاثر خلالها في الجسم داخاً الخلايا قبل ظهور الأعراض، ويعاني الحيوان المصاب في البداية لمدة 2 ـ 3 يوماً من ارتفاع في درجة الحرارة ونقص في إنتاج اللبن وفقدان للشهية يمتنع معها من تناول العلق، ثم تظهر بعض العلامات كصرير الأسنان ورعشة الشفتين وسيل اللعاب وضرب الأرض بالحافر والعرج، وتظهر بثرات مائية في الفم والأنف وحول الحوافر وبينها في النسيج اللين وربما على الضرع أيضاً تنفجر بعد حوالي 24 ساعة تاركة خلفها تقرحات، ويسترد الحيوان صحته عادة خلال 8 ـ 15 يوماً، ولكن قد تحدث مضاعفات مثل الإجهاض abortion للحيوانات الحوامل وتشويه الحوافر وفقدان مستمر للوزن وتسلخات اللسان التي يمكن تلوثها وتعرضها للعدوى الثانوية بكائنات أخرى كالبكتريا والتهاب الضرع mastitis الذي قد يؤدي إلى توقفه نهائياً عن إدرار اللبن والتهاب عضلة القلب myocarditis الذي قد يفضي إلى الموت خاصة في الحيوانات الصغيرة السن، ومن الممكن اشتباه أعراض مرض الحمى القلاعية مع حالات مرضية أخرى ومن هنا يلزم دائماً التأكيد المعملي مناعياً، وربما يصل الأمر لعزل الفيروس وحقنه في حيوانات تجارب أو زراعته في أنسجة حية، مع الحذر من تلك المواد الملوثة واتخاذ أقصى الاحتياطات الممكنة عند نقل العينات المشتبه فيها بين الدول.

وفيروس الحمى القلاعية يمكن حفظه بالتبريد والتجميد ويمكن تعطيل نشاطه برفع درجة حرارته فوق 50م أو تعريضه لوسط قلوي أو حامضي ( كحامض الستريك 0.2% ) ولكنه لا يتأثر بمطهرات كالفينول، ويعيش الفيروس في الغدد الليمفاوية ونخاع العظام ولكنه يتحطم في العضلات عندما تزداد درجة حامضيتها، ويمكنه العيش عالقاً في الأماكن الملوثة لمدة قد تصل إلى شهر اعتماداً على درجة حرارة وحموضة الوسط، ويمكن العيش كامنا في منطقة الفم والحلق لمدة 30 شهراً في الجاموس والأبقار وتسعة أشهر في الأغنام بدون ظهور أعراض مرضية على الحيوان نفسه ومن هنا يمكنه نقل المرض وإصابة القطيع بدون اكتشافه، وفي فترة الحضانة يمكنه كذلك الانتقال للحيوانات السليمة قبل ظهور الأعراض على الحيوان المصاب، وتنتقل العدوى بطرق عديدة مباشرة وغير مباشرة منها الهواء والأدوات المنقولة بين المزارع بالإضافة إلى رذاذ العطاس واللعاب واللبن والمواد الإخراجية للحيوانات المصابة أو الحاملة للمرض بدون إصابة ظاهرية.

ومرض الحمى القلاعية FMD قديم واستناداً إلى المصادر العربية يمكن القول بأن العرب القدامى قد عرفوه ووصفوا هلاك حيوانات الرعي به، وجاءت الأبحاث الحديثة المتعلقة بالفيروسات وميزته وميزت بينه وبين المرض الذي وصفته تلك المصادر ويصيب الفم أيضاً في الصبيان HFMD، ومرض الحمى القلاعية مستوطن endemic يظهر كحالات فردية من حين لآخر في بقاع كثيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط ونادراً في استراليا وأوربا وأمريكا الشمالية، وهو مرض وبائي يأتي في نوبات غير دورية كلما سنحت ظروف تفجره بهيئة وباء epidemic ينتشر سريعاً كالنار في الهشيم لا يعبأ بالحدود السياسية.

وقد أصابت نوبة تايوان في مارس عام 1997م فامتنعت اليابان عن استيراد أي شيء منها يشتبه في نقله للمرض، وأصيبت الصين في أبريل عام 1999م وذبح في مدينة شانغهاي وما حولها حوالي 2000 رأس، وأعلنت كوريا في 27 مارس 2000 عن ظهور الوباء فهبطت صادراتها من اللحوم والألبان، وكانت النوبة الأخيرة التي أصابتها عام 1934م، وفي 23 أغسطس عام 2000م أبلغت البرازيل عن بعض الحالات المصابة بعد آخر إصابة عام 1993م، وفي مدى السنوات الأخيرة أصابت نوبات الوباء روسيا وإيطاليا وأستراليا وتركيا والشرق الأوسط واليابان ويوغسلافيا وفرنسا وكوريا والباكستان وسيريلانكا ونيبال وبنجلاديش والهند، ولكن الأخيرة رفضت ذبح الأبقار المريضة أو المعرضة بسبب اعتقاد البعض قدسيتها.

ولقد ذاقت الولايات المتحدة الأمريكية الوباء 9 مرات كان أبلغها عام 1914م حيث غزا الوباء 22 ولاية وكان آخرها عام 1929م في ولاية كاليفورنيا، وآخر نوبة في أوروبا عام 1989م، وفي بريطانيا قد سجل المرض للمرة الأولى عام 1839م، وكانت آخر نوبة في بريطانيا عام 1967م أصيب خلالها حوالي 2000 حيوان، ولكن يبدو أن العدوى الوبائية هذا العام ( 2001 ) أكثر سرعة في الانتشار وأبلغ عنفاً مما قد يلحق بالاقتصاد البريطاني أضراراً ليست باليسيرة ويصيب في المقام الأول العاملين في تجارة الحيوانات الحية واللحوم والألبان والصناعات ذات العلاقة وإذا ظهرا لمرض في مجموعة مزارع متقاربة تعزل تماماً ويحجر على المنطقة حولها بعمق حوالي 20 كم، فالحجر الصحي خلال الأوبئة يفرض قيوداً شديدة على المزارع القريبة من مصدر الوباء ويحد من نشاط العاملين في تجارة الحيوانات الحية واللحوم والألبان ومنتجاتهما فيقل الإنتاج وربما يفقد السوق الخارجي، وقد أعلنت الجهات المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية في مارس هذا العام ( 2001 ) منع استيراد الحيوانات واللحوم وجميع ما يتعلق بهما من دول الاتحاد الأوروبي.

ولا يوجد علاج فعال لفيروس الحمى القلاعية هذا حتى الآن والمشكلة في اللقاحات هو مدة فعاليتها المحدودة نتيجة لقدرة الفيروس العجيبة على التغير مناعياً بسرعة وإذا وافق اللقاح سلالة الوباء مناعياً تؤخذ جرعة إضافية بعد ستة أشهر من جرعتين أوليين، وتأثير اللقاح لا يستمر طويلاً لذا ينبغي تكراره، وتعتمد فكرة اللقاح بالأمصال على حقن حيوانات سليمة بجرعات مخففة من الكائنات المعي بعد توهينه أو قتله واستخدام بروتيناته كبصمة مناعية تميزه، وبعد فترة تتولد أجسام مناعية في دماء الحيوان قادرة على التصدي للكائن المعدي السليم إذا حقن المصل في حيوان آخر، لكن حملات اللقاح الواسع عند الأوبئة باهظة التكاليف، وربما احتوى اللقاح على فيروسات نشطة قد تصيب الحيوان أو على الأقل تجعله حاملاً للمرض، والحيوان الذي تناول الجرعة المصلية يمكن أن يصاب بالفيروس كغيره وحينئذ يمكنه نقله بدون أن تظهر عليه الأعراض، ولهذا فإن اللقاح بالأمصال يقلل نسبة المرض ولكنه لا يمنع العدوى، والحيوانات التي حصلت على المصل يصعب تمييزها عن الحيوانات الحاملة للمرض حيث توجد الأجسام المناعية في كليهما، ولذا عند إجراء الفحص المناعي على الحيوانان المستوردة ستكون النتيجة إيجابية كذلك في الحيوان الحاصل على المصل وسيعتبر كذلك حاملاً للفيروس، وبسبب كل تلك المحاذير تجنبت بريطانيا حتى الآن الأمصال، ولكن مع اشتداد الوباء مالت التصريحات الرسمية في بداية هذا الشهر ( أبريل عام 2001 ) إلى قبول اللقاح بالأمصال لجميع الحيوانات المعرضة كإجراء أخير للحد من الإصابة، وهو ليس بالخيار السهل لأنه قد يؤخر عودة بلدان الاتحاد الأوروبي إلى سوق التجارة الدولية في هذا المجال ولذا على بريطانيا أولاً أخذ موافقتها.

والنوبة الحالية في بريطانيا المهتم الأول فيها هو الخنازير نظراً لطبيعتها الأصيلة في تناول الرمم والفضلات الملوثة بخلاف المواشي والأغنام والماعز والجمال، والقصة كما يرويها المسئولون البريطانيون هي استقدام مطعم صيني في شمال بريطانيا لحوماً ملوثة من الشرق بطريقة غير رسمية واستعمال الفضلات كغذاء للخنازير في مزرعة قريبة انتشر منها الوباء إلى كل بريطانيا وهكذا أعلنت معظم الدول النفير العام، وقد بلغ عدد الضحايا من المواشي أكثر من 1000 رأس قبل نهاية الأسابيع السبعة الأولى من بداية الوباء، والحالات المعلنة رسمياً حتى الخميس 12 أبريل هذا الشهر ( أبريل عام 2001 ) هي 1259 حالة مؤكدة مع قتل أو ذبح حوالي 1.5 مليون حيوان، وحوالي 0.5 مليون مشتبه فيه ينتظر الذبح، واستناداً إلى الإحصاءات الرسمية يبدو أن المعدل في ازدياد ولم يصل المنحنى بعد لقمته: 19 ألف حالة في الأسبوع المنتهي في 18 مارس و 31 ألف في الأسبوع المنتهي في 25 مارس و34 ألف في الأسبوع المنتهي في 11 أبريل، وقد بلغ عدد المزارع المصابة 624 مزرعة وفق الإحصاءات الأخيرة، والوباء خرج عن السيطرة وفقاً لبعض المختصين ومنهم بروفيسور مارك ولهوس من جامعة أدنبرة، نوع آخر من الحرب تعيشه بريطانيا اليوم وتخشى دول الاتحاد الأوروبي المشاركة فيها، وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية كل حيلة لمنع دخول فيروس الحمى القلاعية خلسة إليها، وقد استدعت بريطاني بالفعل قوات من الجيش للمشاركة في التخلص من الحيوانات المريضة والمشتبه فيها واستخدمت المعدات الثقيلة لحفر قبور جماعية وطمر جثث الحيوانات النافقة والمذبوحة والمقتولة أو حرقها، وفي بداية هذا الشهر قامت قوات الجيش بمذبحة جماعية في منطقة واحدة لحوالي 400 ألف حيوان مشتبه في إصابته وطمر حوالي 500 ألف جثة مصابة، وربما لو تجنب المربون وتجار اللحوم الخنازير واكتفوا بالحيوانات النظيفة لأمكن تجنب الكارثة.





 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/67-Issue-No/562-FMD-in-Europe