بين ركائز العلم والإيمان | العدد السابع
بين ركائز العلم والإيمان
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك




بين ركائز العلم والدين

د. التهامي محمد الوكيل


عضو رابطة علماء المغرب


إننا لنرى من قبيل إجزال الشكر للسلف الصالح والصادق من العلماء الجهابذة، أن نسير على نهجهم، فنقلب الآيات القرآنية والظواهر الطبيعية والكونية والإحيائية والإنسانية المتعلقة بها من جميع جوانبها كما كانوا يفعلون، ولكن هذه المرة بإشراك كفاءات متعددة يفرضها عامل التخصص الذي اختاره إنسان اليوم عنوانًا لحضارته ولثقافته العلمية، وباستعمال كل المناهج والوسائل العلمية الحديثة التي توفرت في عصرنا.

لسنا إذن ندّعي السبق العلمي ولا الأهلية اللازمة للقيام بمهمة الإفتاء والتفسير الأكثر تطورًا وإنما ندعو إلى ذلك من خلال جهد جماعي تسهم فيه خيرة علماء المسلمين من مختلف ميادين العلم وشعبه وفروعه بلا استثناء.

إن القرآن الكريم يخاطب الناس كافة من خلال مضمون علمي كامل ومحيط بكل شيء، ومن باب أولى أن نحاول اليوم إعادة تمثل آياته الكريمة من داخل إطار متكامل هو الآخر يضم كل من لهم صلة بالعلم والتاريخ واللغة وبتطوير الفهم وتطوير وسائل العقل وأدواته.. مع اقتناعنا بأن هذا الإطار لن يكون ـ بأي شكل من الأشكال ـ في مثل كلية وكمال وإحاطة الكلم الإلهي ولكنه سيكون بكل تأكيد أقدر وأكثر تسلحًا لفهمه فهمًا يكون ـ على الأقل ـ ملائمًا لهذا العصر وإمكانياته وأساليبه في البحث والفهم.

إن أجيال المفسرين الأوائل من السلف الصالح قد منحوا آباءنا وأجدادنا ما به تطورت فهومهم وصلحت أحوالهم وتنامت مداركهم وأساليب عيشهم، وبالتالي فإن علينا نحن كذلك أن ننسج على منوال هذا السلف العظيم.

إننا من هذه الزاوية نثمن ما تركه السلف الصالح فينا من أرضية وأساس راسخين، منهما ينبغي أن يكون انطلاقنا، بكل تأكيد لقد اجتهد أسلافنا في استنباط مناهج الاستقراء والاستنباط والاستبطان فحققوا أفضل فهم ممكن مقارنة مع علومهم ومعارفهم وعلوم ومعارف عصورهم برمتها، فكانوا بذلك سباقين إلى ميادين وإلى نهايات لا نزال نراها مصدر فخرنا واعتزازنا بين الشعوب والأمم. وعلينا أن نكون أهلاً لهؤلاء الرواد فنعمل بنفس صدقهم وإصرارهم، وإيمانهم وهذا هو الأهم، ففهم كلام الله فهما متجددًا يناسب علومنا ومعارفنا لأن ذلك يجعلنا صادقين مع أنفسنا حين نقول ونؤكد ونلح في القول والتأكيد بأن كلام الله الوارد في كتابه الكريم، نبراس لكل الأمم والحضارات، ولكل الأزمنة والأمكنة وبأنه كوني أزلي دائم السبق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها وإن قولنا هذا وهو قول حق لا محالة لأنه مستمد من مشكاة الإسلام كتابا وسنة وأخبارًا وآثارًا، يمنع علينا كل المنع أن نظل نقتات بعقولنا وأفهامنا على التراث فنحصر كتاب الله بذلك في دائرة فهم القدامى ونجعله - بالتالي -  كتابًا محدودا في زمانه ومكانه وأهله والمخاطبين به ( بالفتح ) والمخاطبين به ( بالكسر ).

إن الدين والكتاب لا يحصرهما فهم ولا زمان ولا مكان، ولا يختص بهما شعب دون شعب ولا جيل دون آخر من الشعوب والأجيال. وإن كتاب الله يدعو في مواضع كثيرة إلى التدبر والتأمل والتفكر. وهذه العناصر القائمة على إعمال العقل وتفعيل التجارب والمعاينات والملاحظات والخلاصات.. تولد بالضرورة بل بالوجوب، فهومًا متجددة واكتشافات جديدة أكثر تطورًا من سابقتها وأقل تجددًا وتطورًا من لاحقاتها، وتقتضي بتحصيل الحاصل إعادة قراءة التفاسير والتوضيحات والحواشي السابقة بقصد معالجتها بالتصويب والتحيين كلما جد جديد في عالم المعرفة والتجربة والاكتشاف، لأن هذا الجديد يشكل هدفا من الأهداف التي أرادها الحق عز وجل أن تتحقق على أيدينا وعقولنا مع تقدم العصور والأزمنة وتطور أساليب البحث والفهم وأدواتها.

نعم إن الأمر بالتفكر والتدبر يقتضي عند الامتثال له بالعقل والتجربة المعملية والميدانية أن تتـــولد عنه خــلاصات جـــديدة تعيد تشكيل تصورنا لفحــوى الآيات ولعلاقتها الحقيقية بالظواهر والمعالم والعوالم المختلفة، وهذا وحده يجعل التصــورات السابقة عرضةً بالضرورة لتلك المراجعة ولذلك التصـــويب والتحيين.. دون أن يكون في هذا أدنى مساس أو تنقيص من علم أو عمل أو جهد السابقين، إذ تلك هي سنة الله التي لا تبديل لها: بأن يتبدل كل شيء ويخضع للتغيير والتطور ما عدا الحق عز وجل الذي كان أبدا، وسيبقى أبدًا منزها عن هذه الحوادث والعوارض، ومن قال بعدم إخضاع شيء من الأشياء للتغيير، ما عدا كلام الله وحقـــائق هذا الكلام وثوابته، فإنه كمن يقول بوجود فهم إنساني ثابت لا يتغير، وهذا ما لا يجوز قوله في غير كلام الله عز وجل كما سبقت الإشارة.

إن الأمر إذن بالتفكر والتدبر وبالسير في الأرض، وبالنظر في ملكوت السماوات والأرض، ما هو إلا أمر بتجديد الفهم وتطوير الصورة التي لدى الإنسان عن الكون والطبيعة وعن نفسه.

وإذا كانت آيات الله الكريمة قد اشتملت على الرؤية والفهم المتصفين بالكمال والتمام والإطلاق، فإن على الإنسان أن يسعى إلى إدراك بعض ذلك ويتقدم في دروبه بواسطة تطوير فهمه وتجديد رؤيته وبالتالي بتحيين تفاسيره وتمثلاته.