من عجائب الماء
د. هالة عبد العزيز الجوهري
بقسم الفيزياء
- جامعة الملك عبد العزيز![](/images/eajaz/oimages/7/8%280%29.jpg)
يستطيع الإنسان أن يعيش أسابيع عديدة بدون طعام.. ولكنه لا يستطيع العيش أسبوعًا واحدًا بدون ماء.. الماء ذلك العنصر العجيب عديم اللون والطعم والرائحة الذي يكمن فيه سر الحياة.. وهو تلك المادة الوحيدة على الأرض التي توجد في الطبيعة بحالاتها الثلاث ( الصلبة والسائلة والغازية )، والتي تمتلك من الخصائص الفيزيائية ما يعتبر حالة استثنائية بين بقية المواد.. فما هو الماء؟ وما سر تميزه؟
قبل المضي في تفصيل خصائص تلك المعجزة الطبيعية التي وهبنا الله إياها، لنقف معها هذه الوقفة..
وكان عرشه على الماء:
يقول الخالق عز وجل: (
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَــآءِ
) هود ( 6 ) وقد جاءت السنة مفسرة لهذه الآية ففي الحديث الذي رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض
) وفي رواية (ثم خلق السماوات والأرض
). يقول ابن حجر: معناه أن الله خلق الماء سابقًا ثم خلق العرش على الماء. أما ترتيب المخلوقات بعد العرش والماء فقد صرح بها الحديث (كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن
). وقد روى الإمام أحمد والترمذي حديثا مرفوعا ( أن الماء خلق قبل العرش ) كما روى السدي في تفسيره للآية بأسانيد متعددة ( أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء ).فالماء أول المخلوقات، ولا عجب إذن في تفرده بخصائص لا يشاركه فيها عنصر آخر في الطبيعة.
خصائص الماء الفريدة:
>1- قطبيته التي جعلته يعمل كمغناطيس:
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%281%29.jpg)
شكل رقم( 1 ) الماء عنصر قطبي جزئيٌّا. فجزيء الماء يتكون من اتحاد ذرة أوكسجين ( تحتوي على ست إلكترونات في مدارها الأخير ) مع ذرتين هيدروجين ( تمتلك كل منهما إلكترونا واحدا ) برابطة تسمى الرابطة التساهمية. تعتبر هذه الرابطة من أقوى الروابط على الإطلاق، لذا فليس من السهل كسرها واستعادة الأوكسجين والهيدروجين من الماء.
> تشكل البحار والمحيطات ( 97.32 % ) من نسبة المياه على الأرض، غير أنه لا يمكن الاستفادة منها لملوحتها. ويخزن حوالي ( 2.14% ) من المياه على هيئة جبال ثلجية كمخزون إضافي للأرض. وتقوم حياة البشرية كلها على المياه العذبة التي تشكل أقل من ( 0.6 % ) من مجموع المياه على الأرض والموجود على هيئة مياه جوفية وسطحية وأنهار. ولكن رحمة المولى اقتضت تعويض الأرض بما تحتاجه من المياه بالقدر المناسب عن طريق الدورة المائية المعروفة بدورة المطر التي يوضحها الشكل.
( الصورة والنسب مأخوذة من موقع http://ga.usgs.gov/edu ).
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%282%29.jpg)
> شكل رقم ( 2-أ )
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%283%29.jpg)
>شكل رقم( 2- ب )
يعود السبب في كثير من خصائص الماء إلى قطبيته. فقدرة الماء الفائقة على الإذابة ( التي لا تقدر بثمن للكائنات الحية ) تعود إلى هذه القطبية. فبها أصبح الماء من أقوى المذيبات حيث يسهم بفعالية في إتمام عمليات الهضم وتجديد الدم والتخلص من المواد السامة ( الفضلات ) في أجسام الكائنات العضوية وغير العضوية على حد سواء. وبفضل هذه القدرة على الإذابة تستطيع الأنهار والمحيطات نقل الأملاح والمعادن من مكان لآخر على سطح الأرض.
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%284%29.jpg)
2- أشد السوائل تماسكا وتلاصقا:
عند وضع سائل ما في إناء فإن الرابطة التي تربط جزيئاته بعضها ببعض تنقطع عند السطح، ونتيجة لذلك تبدو جزيئات سطح السائل مجذوبة نحو الداخل. وبمصطلح الفيزيائيين تسمى ظاهرة شد جزيئات سطح سائل ما بعضها لبعض بالتوتر السطحي وتقاس بالقوة المؤثرة على وحدة الأطوال ( Dyne/cm ). ووفقا لهذه القوة يبدو سطح السائل كقطعة جلد مشدودة على إطار. وباستثناء الزئبق فإن عنصر الماء يمتلك أعلى قيمة توتر سطحي بين جميع السوائل. تبدو هذه الظاهرة جلية عندما نملأ كوبا بالماء إلى حافته ولا ينسكب.. وعندما نرى العناكب تسير على سطح المياه الراكدة دون أن تبتل أقدامها وكأنها تسير على سطح صلب.. وفي ميل الماء إلى التكور على هيئة قطرات بدل الانتشار على السطح الذي يسكب عليه... وفي تكوين ذلك الحاجز غير المرئي بين المياه العذبة والمالحة عند مصاب الأنهار في البحار والتي جاءت الإشارة إليها في قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَـيْـنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) الفرقان ( 53 ) وفي الآية الكريمة إشارة واضحة إلى شدة تلك القوة الحاجزة والتي تؤكد عظم التوتر السطحي للماء.
ولعل من أهم خصائص الماء الناتجة عن التوتر السطحي هي قدرة الماء الفائقة على تسلق جدران الوعاء الذي يوضع فيه، وكلما كان قطر الجدار الذي يتسلقه صغير كلما أرتفع فيه مسافة أعلى. هذه الخاصية الحيوية للماء والمعروفة باسم الخاصية الشعرية هي التي تتيح للماء - والأملاح المذابة فيه- فرصة الحركة من جذور النباتات إلى أعلى أغصانها، كما أنها المسؤولة عن سريان الدم في الأوعية الدموية الدقيقة في أجسامنا.
3- استقراره الحراري المثالي:
لعل خواص الماء الحرارية من أكثر خصائصه شذوذا وغرابة. يبدو ذلك جليٌّا عند مقارنة درجة غليان الماء بدرجات غليان العناصر الهيدروجينية الأخرى المشابهة له في التركيب الكيميائي مثل كبريتات الهيدروجين أو الميثانول أو الإيثانول. فكما يتضح من جدول ( 1 ) تمتلك تلك العناصر درجات غليان منخفضة جدًا رغم كبر وزنها الجزيء، ولو أن الماء يتبع نفس سلوك تلك العناصر لكانت درجة غليانه وفقًا لوزنه الجزيء الصغير عند درجة ( -70مْ ) وليس عند ( 100مْ ) كما هو معروف ( عند الضغط الجوي النظامي ). أي لولا هذا الشذوذ لوجد الماء على الأرض وعند درجات الحرارة الاعتيادية في حالة بخار فقط !!
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%285%29.jpg)
4- منحنى الكثافة الفريد:
![](/images/eajaz/oimages/7/8%20%286%29.jpg)
وهذا يفسر لماذا تنفجر أنابيب المياه عند التجمد. ولماذا يطفو الجليد على سطح الماء ولا تتجمد البحيرات من الأسفل إلى الأعلى. أنها لخاصية فريدة تعكس بعض تجليات اسم الحفيظ ــ سبحانه ــ الذي حفظ للكائنات البحرية في المناطق المتجمدة حقها في الحياة.