logo.png
عودة جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا
طباعة



الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة

عودة جزيرة العرب مروجًا وأنهارًا

بقلم مهندس: جمال عبدالمنعم الكومي
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : «لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا ".
الحالة الراهنة لشبه الجزيرة العربية:

وأرض العرب المقصودة في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي شبه الجزيرة العربية, التي تقع ضمن حزام الصحراء الممتد بين خطي عرض 15ْ, ْ30 شمالي خط الاستواء وجنوبه.

هذه الخريطة مستوحاة من الخريطة التي وضعها الفلكي وعالم الرياضيات اليوناني بطليموس للجزيرة العربية في القرن الثاني قبل الميلاد (المصدر: مجلة الثقافة العالمية العدد 65) والرطوبة النادرة والجفاف الشديد هما أبرز السمات المميزة للمناطق الصحراوية بصفة عامة, فقد تشهد بعض الجهات الداخلية وخاصة الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية سنوات بطولها دون أن تتلقى قطرة مطر واحدة (دكتور صلاح الدين بحيري «جغرافية الصحارى العربية» ص 12,13.), وهذا بدوره يكون له أثر على الغطاء النباتي والزراعي, حيث ينتشر اللون الأصفر ـ لون الرمال القاسية الملتهبة ـ ولا يستثنى من ذلك إلا بعض المناطق الساحلية التي تسقط عليها بعض الأمطار, والواحات المتناثرة بالقرب من الآبار والعيون.


وقد وصف المولى ـ عز وجل ـ بعض أرض العرب وصحرائها, حين قال في كتابه الكريم على لسان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) ( إبراهيم: 37) وهو وصف يدل على حالة الجدب والقفر والجفاف الذي تعيشه شبه الجزيرة العربية منذ عهد إبراهيم الخليل -عليه السلام.

فإذا كانت هذه هي السمات العامة لمعظم أراضي شبه الجزيرة العربية, فكيف يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها ستصبح أرض مراع وأنهار في آخر الزمان؟! لاشك أن معنى الحديث غريب وعجيب, يصعب على العقل فهمه أو تفسيره.

والمعنى الظاهر للحديث: أن صحراء شبه الجزيرة العربية ستغطيها المروج ـ أي المراعي ـ والأنهار, في آخر الزمان قبل قيام الساعة, وقوله: «حتى تعود» يدل على أنها كانت كذلك في وقت سابق, وأنها ستعود إلى حالتها الأولى, وأن طبيعتها الصحراوية الجافة هي حالة طارئة عليها..

فالحديث في الواقع يتضمن حقيقة ونبوءة وإعجازا خبريًّا وآخر علمياً.

فالحقيقة : أن شبه الجزيرة العربية كانت في الماضي أرضا ذات مراع وأنهار, ثم طرأت عليها الحالة الصحراوية الراهنة..

والمعجزة الإخبارية: أن الأنهار والمسطحات الخضراء ستعود ثانية إلى شبه الجزيرة العربية في آخر الزمان قبل قيام الساعة..

وقد استغرق هذا الحديث أربعة عشر قرنا من الزمان لكي يفهم على هذا الوجه الصحيح, حدث ذلك بعد التقدم الهائل في علوم الجيولوجيا والتاريخ المناخي والفلك وغيرها, وبعد العديد من أعمال الحفر والتنقيب بصحراء شبه الجزيرة العربية, والتي تثبت لغير المسلمين ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإعجاز العلمي في هذا الحديث, وسنعرض لهذه الحقيقة العلمية التاريخية والأبحاث والاكتشافات التي تؤكدها, كما سنعرض الدلالات العلمية التي تقيم الحجة والبينة بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مَن علم هذا وعرفه.

الحقيقة العلمية:
شبه الجزيرة العربية في الماضي "أرض ذات مراع وأنهار"

تؤكد المكتشفات العلمية الحديثة ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث المعجز, من أن شبه الجزيرة العربية لم تكن صحراء بالمعنى المتعارف عليه حاليا, بل كانت أرضا خضراء تتدفق فيها الأنهار, وتترقرق في بعض نواحيها البحيرات الواسعة, وتنهض في ما أصبح بادية بعد ذلك ـ مدن على حظ كبير من التقدم الزراعي والحرفي.

شبه الجزيرة العربية في الماضي

كان ذلك في مرحلة متقدمة من حقبة جيولوجية تُعرف باسم «الحقبة البليستوسينية كما يقول علماء الجيولوجيا(يقسم العلماء التاريخ الجيولوجي للأرض إلى أزمنة, وفقا للخصائص العامة للحياة في كل زمن, وينقسم كل زمن إلى عصور تبعا لأنواع وأشكال الحياة التي وجدت فيه, والتي تعرف من الحفريات التي ترسبت في طبقات الصخور التابعة لذلك العصر) pleistocenc» والتي بدأت قبل أكثر من مليون سنة, وانتهت منذ عشرة آلاف سنة خلت, وخلال هذه الحقبة من الزمن ساد الأرض مناخ بارد وغطت الكتل والمسطحات الجليدية الضخمة الأجزاء الشمالية من أوروبا وأمريكا الشمالية ـ حتى وصل الجليد إلى شمال فرنسا ـ فيما أطلق عليه العصور الجليدية «Glacials» إلا أن الجليد كان يذوب خلال الفترات الأدفأ ـ والتي عرفت باسم «الفترات بين الجليدية Interglacials» ـ فتحسن الأحوال المناخية تسحنا كبيرا( نورمان ويلن ودافيد بيز «أوائل البشر في شبه الجزيرة العربية» مجلة الثقافة العالمية, عدد 59 نقلا عن مجلة (Aramco World, August 1992).).

وكان انتشار المسطحات الجليدية في الأجزاء الشمالية ـ أثناء العصور الجليدية ـ يؤثر في مناخ الأرض فيؤدي إلى زحزحة نطاق المطر إلى الجنوب, فتدخل شبه الجزيرة العربية والصحراء الكبرى بشمال إفريقيا في نطاق الرياح الغربية الممطرة, والتي تهب الآن على غرب أوروبا ـ فيؤدي ذلك إلى أزدهار تلك الصحراوات وامتلائها بالأنهار والوديان الخصبة(دكتور إبراهيم أحمد رزقانة «الجغرافيا التاريخية الطبيعية»: ص 146 بتصرف)

وفي فترات الدفء بين العصور الجليدية تتحرك نُطُقْ الأمطار إلى الشمال فتصبح شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا ضمن نطاق الرياح التجارية ويسودها مناخ مشابه لمناخها اليوم(تحتل الصحارى العربية الجزء الأكبر من نظام كوكبي يعرف بـ «صحارى الرياح التجارية» Trade Wind Deserts وهو نظام يتسم بالجفاف الدائم.. فالقطاع الفعال من التوبوسفير, مابين 2 ـ 6 كيلومترات فوق سطح البحر ـ وهو القطاع الفعال فيما يتعلق بنشأة الاضطرابات الجوية ـ يشغله حزام متصل من الضغط المرتفع الدائم على مدار السنة, فوق أرض الصحراء والمسطحات المائية على السواء, وكما هو معروف, تقترن حالات الجفاف بصفة عامة بظروف الضغط المرتفع.. وعلى هذا فالصحراء الكبرى والصحراء العربية بوقوعها ضمن نطاق التجاريات تصنف كصحارى مناخية, أي كنتيجة مباشرة لميكانيكا الدورة الكوكبية العامة حول الأرض. بتصرف من «جغرافية الصحارى العربية» 147,149).

واستنادا إلى أبحاث الجيولوجي الأمريكي هال ماكلور ـ في رسالة دكتوراة عن الربع الخالي ـ فإن البحيرات كانت تغطي هذه المنطقة الصحراوية خلال العصور المطيرة (العصور الجليدية) وأنها ظهرت مرتين, الأولى قبل 37000 إلى 17000 سنة, والثانية بين 10000 إلى 5000 سنة خلت ( مجلة آفاق علمية, عدد (42): ص 15 ).

البعثات الجيولوجية:

هذه الصورة الزاهية لشبه الجزيرة العربية, بأنهارها الرقراقة, وأشجارها الوارفة, والتي كانت شائعة في الأدبيات التراثية (نبه التراث الأدبي واللغوي العربي إلى ما شهدته شبه الجزيرة العربية من تغيرات مناخية.. فإذا تتبعت أسماء الحيوان عند العرب هالتك تلك الأسماء العديدة لحيوان واحد كالأسد مثلا, وهذا يؤكد أن تلك الأسماء قد تعددت بحكم تكاثر ذلك الحيوان وتواجده بينهم في الأزمنة الغابرة.. وكذلك الأنهار وتعدد أسمائها..


وجاء في تغريبة بني هلال: «إنه لا يخفى على أهل المعارف بأن بلاد نجد كانت من أخصب بلاد العرب, كثيرة المياه والغدران والسهول والوديان, حتى كان يذكرها شعراء الزمان بالأشعار الحسان, وتفضلها على غيرها نظرا لحسن هوائها, وكانت منازل بني هلال من سالف الأجيال ـ وما زالت ـ على رونقها الأول, حتى تغير قطرها, واضمحل عنها الحشيش والنبات, وعمت المجاعة جميع الجهات, ولم يعد فيها شيء من المأكولات حتى صارت أهاليها تأكل الحيوانات...» (ومن أكبر هذه البعثات بعثة جيولوجية بقيادة بيتروايبرو من المتحف البريطاني, والتي توجهت إلى دولة الإمارات في أوائل عام 1989, واكتشفت بقايا للحياة الحيوانية تعود إلى أواخر عصر الميوسين, أي إلى حوالي 7 ملايين سنة.

والحيوانات التي عثر بيتروايبرو وزملاؤه على بقاياها حيوانات من رتبة البهيميات (وهي خرطوميات ثديية تعتبر من الأقارب البعيدة للفيلة المعاصرة) وأفراس النهر, وآكلات اللحوم الصغيرة, والجياد, ووحيدي القرن, والسلاحف والتماسيح والأسماك والطيور, وقرود تشبه الماكاك.. وواضح أن كل هذه الحيوانات من أصول حبشية.. ففي حقبة الميوسين كان البحر الأحمر مفتوحا على البحر المتوسط, ولكنه كان مغلقا من جنوبه بجسر بري قائم بين الحبشة واليمن, وفي الشرق كانت شبكة نهري دجلة والفرات تمتد إلى الجنوب أكثر مما هي عليه اليوم, وتشير أنواع الحيوانات التي عثر عليها إلى أنها قد ازدهرت في دلتا هذه الشبكة( مجلة آفاق علمية, عدد (المرجع السابق, ص: 63), ص 14 نقلا عن مجلة «نيتشر Nature» عدد 27/4/1989م ).

التصوير الفضائي:

ومع التقدم الهائل في علوم الفضاء والاستشعار عن بعد, دخلت هي الأخرى حلبة السباق في البحث والكشف عن الكنوز المدفونة في باطن الأرض, مثل الآثار والمياه الجوفية والمعادن وغيرها.

وتستطيع تكنولوجيا التصوير الفضائي والاستشعار عن بعد, إعطاء علماء الآثار فكرة عامة عن الأماكن التي عليهم أن ينقبوا فيها, وهذا ما حدث في أحد أشهر الأبحاث التي أجريت في صحراء مصر عام 1981.

ففي مختبر المسح الأثري الأمريكي بولاية أريزونا الأمريكية, بينما كان الباحثون يحللون جداول معطيات جمعتها أجهزة الرادار المركبة على متن مكوك الفضاء «كولومبيا», أظهرت صور الرادار وجود منطقة تحت رمال صحراء جنوب مصر, وشمال غرب السودان, لا تهطل فيها الأمطار الآن إلا بمعدل مرة كل خمسين سنة, ولكنها تحتوي على مجاري أنهار قديمة كبيرة, بعضها أوسع من نهر النيل نفسه( يرى علماء التاريخ الطبيعي والجغرافيا التاريخية أن أنظمة نهرية تجمعت وتكونت في عصر الأوليجوسين الجيولوجي, وكونتا نهرا كبيراأطلق عليه اسم «النهر الليبي القديم» أو الأورنيل ( جد النيل) وكان يخترق الصحراء الغربية وينتهي بدلتا كبيرة في المنطقة الواقعة بين منخفض الفيوم جنوبا ووادي النطرون شمالا, وتحتوي الرواسب النهرية في هذه المنطقة على بقايا كائنات من النوع الذي يعيش في الماء العذب, مثل التماسيح وأفراس النهر بالإضافة إلى الفيلة, وتعتبر منطقة الفيوم الموطن الأصلي للفيل في العالم. ( بتصرف من «مورفولوجية الأراضي المصرية» للدكتور محمد صفي الدين, ص: 50, 51)!

بعد ذلك بعدة أشهر أثبتت البعثات التي توجهت إلى المنطقة أن أشعة الرادار كانت قد اخترقت الرمال الجافة وانعكست على الأحجار الكلسية الموجودة في قيعان الأنهار (الجافة) على عمق مترين من سطح الأرض, ووجد المنقبون عند شطآن الأنهار التي حددها الرادار أصدافا لأنواع من الحلزون البري الذي لا يمكنه العيش إلا في الأماكن الرطبة المبتلة وفي مناخ استوائي.


والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن المنقبين عثروا على ألوف من الأدوات التي صنعها الإنسان في العصر الحجري, كالفؤوس اليدوية وما شابه ذلك, والتي يعود تاريخها إلى حوالي 200 ألف سنة خلت, وهذا ما جعل العلماء يعتقدون بأن تلك الصحراء كانت رطبة ومأهولة في بعض تلك العصور(مجلة آفاق علمية, عدد (17), ص 32).

وقد أجريت حديثا دراسة مشابهة لشبه الجزيرة العربية, حيث أظهرت الصور الجوية وجود مجرى لنهر قديم عملاق يخترق شبه الجزيرة العربية من الغرب ويتجه إلى الشرق, ناحية الكويت, ويختفي مجرى هذا النهر تحت كميات هائلة من الكثبان الرملية, وأوضحت الصور أيضًا أن مساحة شاسعة من شمال غرب الكويت عبارة عن دلتا لهذا النهر العملاق, ويشير هذا الكشف ـ كما ذكر الدكتور فاروق الباز(جريدة الشرق الأوسط, عدد 27/3/1993 في تحقيق أجري مع الدكتور فاروق الباز, عالم الجيولوجيا والفضاء المصري المقيم بأمريكا) ـ إلى وجود كميات هائلة من المياه الجوفية في مسار النهر القديم وإلى احتمال وجود آثار للإنسان القديم الذي لابد أنه عاش على جانبي النهر في العصور السحيقة عندما كان النهر يجري بالمياه قبل 5000 عام( لمزيد من المعلومات عن آثار الإنسان القديم التي عثر عليها حديثا في شبه الجزيرة العربية, انظر: نورمان ويلن ودافيد بيز «أوائل البشر في شبه الجزيرة العربية» مجلة الثقافة العالمية, عدد (59)).

المكتشفات الأثرية في شبه الجزيرة العربية:

وتدل التنقيبات الأثرية الحديثة على صحة هذه المعلومات, خاصة بعد اكتشاف عدد من المواقع الأثرية هي بقايا حضارات ومدنيات متقدمة, في مناطق هي الآن صحراء جافة!

ففي عام 1834م اكتشفت قلعة على مقربة من عدن, تعرف بـ «حصن الغراب» وبعد إزاحة أكوام الرمال عن أطلال هذه القلعة عثر على قطعة من الرخام وعليها نقش يقول:(1)

"لقد قضينا دهورا بين أفنية هذه القلعة في عيشة راضية لا يشوبها ضيق أو عسر, وتحيط بنا مياه البحر في حالة طغيان المدّ, وأنهارنا تفيض مندفعة غزيرة, وبين النخيل الباسقات كان حارسها يغرس الرطب الجني على ضفاف الجداول المتعرجة الدافقة بالماء أو الجافة, وكنا نصيد صيد البر بالحبال والغاب, كما كنا نخرج الأسماك من أعماق البحار, وكنا نختال في مشيتنا, رافلين في ملابسنا الحريرية الموشاة عند أطرافها, وثياب سندسية خالصة, وأردية ملونة بخطوط خضراء, وكان الملوك الذين يحكموننا منزهين عن الدناءة, أشداء على أهل الخديعة والغدر, وقد اختاروا لنا شريعة محكمة مستمدة من ديانة هود, وكنا نؤمن بالمعجزات, والبعث, وإحياء الموتى..(سيد مظفر الدين نادفي «التاريخ الجغرافي للقرآن» ترجمة دكتور عبدالشافي غنيم عبدالقادر, ص: 182 ـ 183, نقلا عن كتاب المستشرق (فورستر Forster) الجغرافيا التاريخية لبلاد العرب)». وهذا الحصن من بقايا حضارة عاد الثانية(عاد من أمم العرب العظيمة البائدة, أسست أقدم مدينة عرفها العالم, وكانت القصور الشامخة والصروح العظيمة أكبر مظهر لتقدمهم, قال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) ( الفجر: 6 ـ 8) وقد أرسل الله إليهم هودا ـ عليه السلام ـ فكذبوه وكفروا به.. قال تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهه وإنا لنظنك من الكاذبين قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول رب العلمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) ( الأعراف: 65 ـ 68) فأهلكهم الله بريح صرصر عاتيه كما قال تعالى:(وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) ( الحاقة: 6 ـ 7) وهؤلاء هم عاد الأولى, ونجى الله هودا والذين آمنوا معه, قال تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ) ( هود: 58) وهؤلاء هم عاد الثانية), وهو يصور مدى رغد العيش والسعة والتقدم الذي كانوا يعيشون فيه.. وواضح أن هذه الصورة لا تكون في صحراء جافة.

وفي صفحات التاريخ تُذكر العديد من المدن العربية التي ذاع صيتها, وتناقل الرواة الحكايات عن تقدمها الحضاري, ونسجت حولها الأساطير والروايات, ومن أشهر هذه المدن المدينة الأسطورية «أوبار Ubar», ويعد الكشف عن أطلال وكنوز هذه المدينة إحدى المغامرات العلمية المثيرة الرائعة(أنظر مجلة الثقافة العالمية, عدد (65) ومجلة العلم والتكنولوجيا, عدد ( 29)).

فوجود هذه المدينة وموقعها ظلا لغزا حير علماء الآثار لسنوات خلت, وجعلهم أسرى الشكوك والتكهنات والافتراضات, فتوقعوا مواجهة صعوبات جمة في البحث عن ضالتهم المنشودة, ولكن اليوم, وبفضل تسخير الله أحدث الوسائل التكنولوجية التي تميز بها عصرنا, خصوصا التطور التقني الهائل في مجال تكنولوجيا الفضاء, تمكن العلماء من تحديد موقع هذه المدينة ونفض الغبار عنها, مما جعل عملية الاكتشاف في حد ذاتها, سابقة لا مثيل لها في علم الآثار الحديث.

لغز المدينة المفقودة:

ومدينة «أوبار» من أقدم وأشهر مدن شبه الجزيرة العربية (ربما تكون مدينة أوبار ـ كما يعتقد العديد من العلماء ـ هي مدينة «إرم» المذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى : (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) ويصفها القرآن بأنها: (التي لم يخلق مثلها في البلاد ) وتذكر كتب التفسير, ومعاجم البلدان عن هذه المدينة الكثير من الروايات, تحوي مبالغات كثيرة عن عظم تلك المدينة وفخامتها ( أنظر على سبيل المثال: الروض المعطار في خبر الأقطار: ص 22 ـ 24) قال ابن كثير في تفسيره؛ 4/508: «وهذا كله من خرافات الإسرائيليين» ويبقى ـ بعد استبعاد مبالغات الرواة وتهويل القصاص ـ أنها مدينة عظيمة), شيدها شداد بن عاد في صحرائها الجنوبية, وبذل النفيس والغالي في بنائها لتكون جنة في الأرض, إذا جاز التعبير..

 

وكان لورانس العرب أول من حلم بتحديد مكان المدينة المفقودة, وأطلق اسم «أطلنتيس الصحراء» عليها, ولكن توفي قبل أن يحقق حلمه, ثم تبعه آخرون من الرحالة الذين انطلقوا في بعثات غير مثمرة عامي 1947 و1953, ومنهم الرحالى البريطاني «برترام توماس B.Thomas» الذي استند ـ أثناء رحلته الاستكشافية ـ إلى كلام البدو الذين زودوه بعدد من الإرشادات لإيجاد الطريق إلى «أوبار» ولكنه لم ينجح أبدا في العثور عليها.

وفي بداية الثمانينيات بدأ البحث الجدي عندما وقعت بين يدي صانع الأفلام الوثائقية الأمريكي «نيقولاس كلاب N.Clapp» ـ وهو من جملة من شغفوا باكتشاف المدينة ـ المذكرات التي كتبها توماس عام 1932, وتضمنت سيرته ومجموعة تقارير علمية عن الآثار في شبه الجزيرة العربية, وفيها يشير ـ مدعوما بالأدلة ـ إلى وجود طريق قديمة إلى «أوبار», وبالإضافة إلى ذلك جمع «كلاب» معلومات أكثر حول الموضوع من مراجع ووثائق تضمنت أسماء 600 مؤرخ وعالم جغرافي ورحالة أكدوا وجود «أوبار».

نتيجة لهذا الجهد النظري قرر «كلاب» تأليف فريق بحث مهمته الانطلاق في بعثة لمدة ثلاثة أشهر لحل لغز المدينة المفقودة, وضم الفريق, المحامي «جورج هدجزG.Hedge» المسؤول عن جمع المال والتبرعات لتمويل البعثة وتنظيم أمورها, وخبيرين في شؤون الجزيرة العربية, هما عالم الآثار المعروف «جوريس زارنز J.Zarins» الذي تولى تحليل المعلومات المتوفرة, والسير «رانولف فينيس R.Fiennes» الذي كان ضمن الوحدات العسكرية البريطانية التي ساعدت الجيش العماني عام 1968, وكان على دراية كبيرة بالمنطقة.

حصلت البعثة على دعم شخصي من السلطان قابوس ـ الذي بدا مغتبطا جدا للأمر - ومن وزارة التراث العمانية, التي تبنت الفكرة وقدمت للبعثة كل عون ورعاية, وكذلك من بنك عمان الدولي ومن شركة نفط عمان.

والجدير بالذكر أن أقدم الإشارات الجغرافية إلى «أوبار» وردت في خريطة جغرافية قديمة وضعها الجغرافي السكندري «كلوديوس بطليموس C.Ptolamy» وأشار إلى وجودها في منطقة تقع على مشارف الربع الخالي حاليا, وهي صحراء غير مطروقة واجتيازها محفوف بالمخاطر, وكانت أول زيارة للبعثة لهذه المنطقة المحظورة عام 1990, ولكنها ما لبثت أن غادرتها خوفا من الوقوع في المهالك.

أما عملية البحث الجدي فبدأت في نوفمبر عام 1991, وفي أوائل 1992 - وبعد أن صرح «كلاب» بأنه بدأ يشعر بالفشل - جاء قرار البعثة بالتنقيب في منطقة «سشعر» في «ظفار», وكانت النتائج مشجعة, خاصة بعد أن تم دعم عملية الحفر باستخدام رادارات خاصة بالتربة الرملية تتغلغل في باطن الأرض.

وكان «كلاب» ـ قبل ذلك, وبالتحديد عام 1984 ـ قد طلب من عالمين في وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» مسح منطقة شبه الجزيرة العربية بواسطة رادار التصوير الفضائي المركب على مكوك الفضاء «تشالينجر» وبعد مقارنة صور المكوك مع صور أرسلها القمران الصناعيان «سبوت Spot» الفرنسي, و«لاندسات Landsat», أصبح بين يدي البعثة خريطة فريدة لمنطقة الربع الخالي, توضح طرق القوافل القديمة وخزانات المياه الجوفية ومجاري الأنهار القديمة والوديان, وكلها مناطق كان من الصعب جدا رؤيتها بالعين المجردة, إلا أنها ظهرت واضحة جلية بفضل تكنولوجيا التصوير الفضائي.

وقد أظهرت هذه الخريطة وجود طريق للقوافل مدفونة تحت الكثبان الرملية التي يصل ارتفاعها إلى 183م, وبالاستعانة بهذه المعلومات قررت البعثة الحفر قرب نقطة تقاطع طريق القوافل مع مكمن مائي قديم كشفت عنه الصور الفضائية, وهنا كانت الاكتشافات المدهشة.. قلعة محصنة مثمنة الأضلاع, ذات أبراج وجدران شاهقة يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار, وتضم عددا من غرف التخزين وأماكن السكن.. وظهرت المدينة الأسطورية «أوبار».

وهناك أيضا الكشف عن آثار مدينة «قرية» التي تقع على ضفاف وادي «الفاو» وتبعد 280 كم إلى الشمال من مدينة «نجران» وتشرف على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي, وتقع على الطريق التجاري الذي يربط بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها, حيث كانت القوافل تبدأ من سبأ ومعين مارة بقرية(محمد الأسعد «حضارات قبل الإسلام» مجلة آفاق علمية, عدد (34)).

وقد بدأ التنقيب عنها عام 1972 حيث تولت المهمة جمعية التاريخ والآثار في جامعة الرياض, وأصدرت الجامعة أحد عشر مجلدا عن نتائج التنقيبات, تناولت المعادن والأواني الفخارية والحجرية والمباخر والزجاج والحلي والفخار والعمارة والمسكوكات والكتابات والنقوش, والتي ترجع «قرية» إلى القرن الثاني الميلادي.

وهكذا تؤكد كل الشواهد والبراهين العلمية والتاريخية أن الحقائق الواردة في حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحيحة ثابتة, قالها ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أربعة عشر قرنا من الزمان, ولم يكن ثمة أجهزة تنقيب أو تصوير فضائي.. وإنما كان هناك الوحي.. (

وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي
).
النبوءة العلمية: عودة الأنهار إلى شبه الجزيرة العربية

يتضمن هذا الحديث النبوي الشريف ـ إلى جانب الحقيقة العلمية المبهرة والمعجزة, والتي أثبتها البحث العلمي الحديث, والمتعلقة بمناخ شبه الجزيرة العربية منذ آلاف السنين ـ يتضمن أيضا نبوءة علمية عجيبة وغريبة أخرى, ألا وهي: عودة الصورة الاصلية القديمة لشبه الجزيرة العربية.. أمطار غزيرة, وأنهار جارية, ومراع ومساحات خضراء وارفة!!

"لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا"

ويعتقد البعض أن ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تحقق الآن في شبه الجزيرة العربية, نتيجة لاكتشاف مياه جوفيه بكميات كبيرة تدفق منها العديد من الآبار والعيون الجارية (يميز الباحثون بين نوعين من المياه الجوفية: مياه سطحية بالطبقات العليا التي لا يزيد عمقها عن بضع عشرات من الأمتار تحت الأرض, وهي حصيلة الأمطار والسيول الراهنة, وأخرى بالطبقات العميقة على بعد مئات الأمتار أسفل السطح, وهي مدخرة من عصور جيولوجية ماضية.. وفي شبه الجزيرة العربية توجد خزانات جوفية عميقة (أي أنها مدخرة من العصور المطيرة في الماضي البعيد» تحت مساحات شاسعة من أرض الصحراء تقدر بنصف المساحة الكلية, ففي بعض مناطق تبوك أنزلت آبار ناجحة على عمق 800م, وفي القصيم تحفر الآبار ألف متر, وفي الجوف وسكاكا بشمال السعودية فجرت مياه الخزان الجوفي العميق منذ سنوات حيث أنزلت الآبار نحو 850م تحت السطح, فاندفعت المياه ساخنة بضعة أمتار إلى أعلى.. (بتصرف من: جغرافية الصحارى العربية, ص 185. 192. 193)) , مما مكن ـ وباستخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة ـ من استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية وزراعتها.


(في أعلى) التغيرات الفلكية، ( في اليسار) تأثير التغيرات في شدة الإشعاع الشمسي خلال فصل الصيف، ( في اليمين) حجم المسطحات الجليدية الأرضية.

وهذا مخالف لظاهر كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد قال: «مروجا وأنهارا» ولم يقل «مروجا وعيونا» ومعروف أن الأنهار تتكون أساسا من سقوط الأمطار الغزيرة, وهذا ما لم يحدث حتى الآن.

والظن الغالب, والتفسير الأقرب إلى المفهوم من كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن هذا سيحدث كنتيجة لتغير شامل في مناخ الكرة الأرضية, ينتج عنه تحرك نطق المطر بحيث تدخل صحراء شبه الجزيرة العربية فيها, مما يؤدي إلى جريان الأنهار في أوديتها الجافة, وهذا يعني ـ كما سبق أن ذكرنا ـ دخول الأرض في عصر جليدي جديد!!

مناخ الأرض المتغير

والواقع أن صورة المناخ الثابت للأرض صورة غير حقيقية, فخلال آلاف السنين ـ وهي تعد لحظات بالنسبة للتاريخ الجيولوجي ـ تحدث تغيرات هائلة في مناخ الأرض, حيث يسودها مناخ بارد وتحتل المسطحات الجليدية الهائلة مساحات شاسعة منها, ثم تبدأ درجات الحرارة في الارتفاع مرة أخرى, وينحسر الجليد, وتحدث فترة دفء.. وهكذا.

وهناك العديد من الأدلة على حدوث مثل هذه الذبذبات المناخية لخصها الأستاذ «أوستن ميلر» فيما يلي :(الجغرافيا التاريخية الطبيعية, ص 134 ـ 135)

1- المعلومات الخاصة بالأمطار وغيرها من الظواهر المناخية الأخرى, والتي سجلها الكتاب القدماء, مثل سجل الظواهر الجوية الذي دونه بالإسكندرية بطليموس في القرن الثاني الميلادي.

2- المعلومات الخاصة بالفيضانات وفترات الجفاف.

3- المعلومات الخاصة بمواعيد بذر الحبوب وضمها, ومثال ذلك أنه توجد في بعض جهات أوروبا سجلات مدون فيها مواعيد جَنْي الكروم منذ سنة 1400م.

4- البيانات الخاصة بمواعيد تجمد المواني, فمثلا توجد بالدانمارك سجلات مدون فيها مواعيد تجمد المياه عند سواحلها في فصل الشتاء منذ سنة 1350م.

5- اختلاف المسافات بين الحلقات السنوية لنمو الأشجار المعمرة (الحلقات التي تظهر في مقطع الشجرة) وقد عُمِّر بعض هذه الأشجار أكثر من 3000 سنة.

6- وجود الغابات المتحجرة في جهات لا تكفي أمطارها في الوقت الحالي لنمو الغابات, وكذلك وجود كتل الأخشاب المتفحمة في جهات شديدة الجفاف في الوقت الحاضر.

7- وجود آثار مراكز عمران قديمة في جهات لا تساعد ظروفها المناخية الحالية على العمران, مثل أنقاض مدينة «تدمر» بالصحراء السورية, والتي يقدر عدد سكانها في القديم ـ بناء على هذه الأنقاض ـ بأكثر من مائة ألف نسمة.

8- وجود آثار تدل على الزراعة في مناطق لا يسمح مناخها الحالي بالزراعة.

9- امتداد بعض الطرق حول بحيرات جافة حاليا, وكذلك قيام كباري ومعابر على مجاري مائية ليس بها ماء في الوقت الحاضر.

وغيرها من الأدلة الكثيرة التي تثبت هذه الحقيقة.

ومن الثابت أيضا «أن ظهور الإنسان الأول كان معاصرا لتغيرات مهمة في المناخ, نتج عنها ظهور الفترات الجليدية في عصر البليستوسين الجيولوجي» (المرجع السابق , ص :136) وهي آخر الفترات الجليدية, ونعيش الآن فترة الدفء التي أعقبتها.

 

النظرية الفلكية للعصور الجليدية

وقد شغلت ظاهرة دخول الأرض في عصور جليدية أذهان العلماء, وأخذوا يبحثون عن الأسباب التي تسببها, ووضعوا لذلك العديد من النظريات والافتراضات, ومن أشهرها ـ الآن ـ نظرية الفلكي اليوغسلافي «ميلانكوفيتش» التي طرحها في بدايات القرن الميلادي الماضي.. فماذا قال «ميلانكوفيتش»؟ (ترجع النظرية الفلكية للعصور الجليدية إلى القرن التاسع عشر, وإلى أعمال الفلكي الاسكتلندي جيمس كرول الذي ولد عام 1821 ونشر آراءه في ثمانينيات القرن التاسع عشر, ولم تلق قبولا آنذاك, ثم أعاد ميلانكوفيتش طرحها ـ بعد أن أدخل عليها تعديلات ـ عام 1941).


لقد أرجع سبب الانقلابات المناخية على سطح الأرض إلى التغيرات التي تطرأ على ثلاثة مقادير متعلقة بهندسة مدار الأرض حول الشمس.

فالأرض تدور حول الشمس في مدار شبه دائري, ولكنه لا يثبت هكذا, بل يتغير فيمتد قليلا ليصبح إهليجيَّا, ثم يعود إلى وضعه شبه الدائري في دورة مدتها 100 ألف سنة, وعندما يكون المدار دائريا فإن الأرض تتلقى كمية مماثلة من حرارة الشمس في كل يوم من أيام السنة, أما عندما يكون المدار إهليجيا فإن كوكبنا يكون في بعض أيام السنة أقرب إلى الشمس ويتلقى مزيدا من الحرارة منه في أيام السنة الأخرى, ولكن مجموع كمية الحرارة التي يتلقاها الكوكب بأسره خلال سنة كاملة يبقى ثابتا دوما.. هذا هو التغير الأول في نظرية «ميلانكوفيتش».

أما التغير الثاني فهو في محور دوران الأرض.. فالأرض تدور حول محورها, وهذا المحور يكون مائلا على مستوى دورانها حول الشمس, بمعنى أنه إذا رسم محور متعامد على مستوى دوران الأرض حول الشمس (وهو ما يعرف بدائرة الكسوف) فإن محور دورانها يميل على هذا المحور العمودي بزاوية تتغير من ْ21.8 إلى ْ24.5 في دورة مدتها 41 ألف سنة.. وهذه الزاوية الآن 23.4 وهي آخذة في التناقص.


والتغير الثالث في هندسة مدار الأرض يتعلق أيضا بمحور دورانها, فهذا المحور الوهمي يرسم في السماء دائرة ـ وهو ما يعرف بالترنح «Precession» ويكمل المحور دورته هذه في دورة مدتها 23 ألف سنة.

هذه هي التغيرات التي تطرأ على هندسة مدار الأرض حول الشمس والتي يسببها تفلطح الأرض وعدم كمال استدارتها, وجاذبية القمر والكواكب لها, مما يجعلها تترنح في دورانها حول الشمس كما تترنح «النحلة» التي يلعب بها الصبية, وهذا بدوره يؤثر على كمية الإشعاع الشمسي الواصلة إلى الأرض خلال أيام السنة.

كان من المستحيل أيام «ميلانكوفيتش» أن تختبر النظرية الفلكية للعصور الجليدية, فلم يكن ثمة من يعرف التواريخ المضبوطة لنمو وانحسار الجليد خلال الآلاف الماضية من السنين, وهكذا ظلت هذه النظرية غير مثبتة وليس لها من المتحمسين إلا القليل, إلى أن تطورت التقنيات الحديثة لتعقب حرارة الأرض على مر آلاف الأعوام عبر العصور, تم هذا في السبعينيات بدراسات على بقايا الأصداف الجيرية والقواقع والحيوانات الأولية المترسبة في أعماق البحار(جون جريبين «ظاهرة الصوبة» ترجمة د. أحمد مستجير, ص: 62 ـ 63).

وتستخرج الرواسب من قاع البحر في صورة أعمدة طويلة يستخرجها مثقاب من سفن الاستكشاف الجيولوجي, لكن عمر الرواسب عند أي عمق لا يمكن استقراؤه مباشرة من العمود, وإنما يقدر بمقارنة المغناطيسية (يتغير المجال المغناطيسي للأرض تغيرا واسعا مع الزمن الجيولوجي, فيضعف ويشتد, وأحيانا ينعكس تماما, وهذه التغيرات ـ خاصة الانعكاس ـ تمثل بصمة مميزة للعصر الجيولوجي, فمن الممكن أن نقارن أي قطعة من الرواسب لها مغنطيسية معينة بنظيرتها من صخور اليابسة, ليحدد عمرها بدقة بالغة. (ظاهرة الصوبة, ص: 63 بتصرف() المحبوسة بها بمغناطيسية صخور من البر حسب عمرها بالفعل بطرق أخرى (24), وهذا يحل نصف المشكلة, وهي تحديد عمر الرواسب, ويبقى النصف الآخر, وهو تحديد درجة الحرارة في هذا الزمن الذي ترسبت فيه.


هناك نوعان شائعان من ذرات الأكجسين (نظيران) هما أكسوجين ( 16) وأكسوجين ( 18) وكلاهما موجود في الهواء الذي نتنفسه , وكذا في ماء البحر, ولما كان الأكسوجين (18) أثقل من الأكسوجين ( 16) فإن البعض من جزئيات ماء البحر سيكون أثقل من البعض الآخر, وجزئيات الماء الأثقل تتجمد أسرع من جزيئات الماء الأخف, وهذا يعني أن نسبة أكبر من الجزيئات الأثقل ستحبس في الثلج عند حلول العصر الجليدي, ولما كانت الكائنات البحرية تأخذ الأكسوجين من بيئتها لبناء أصدافها, فإن الأصداف التي تتكون في العصر الجليدي ستحتوي على قدر أعلى نسبيا من نظير الأكسوجين الأخف, الذي لم يحبس داخل الطبقات الجليدية الضخمة.. وبقياس نسبة نظيري الأكسوجين في بقايا القواقع والأصداف الموجودة في الطبقات المختلفة من الرواسب أمكن الاستدلال على درجة الحرارة عند ترسيبها (المرجع السابق, ص: 64).

لقد وجد أن طول العصر الجليدي نحو مائة ألف عام, تأتي بعده فترة دفء تسمى مرحلة «بين جليدية» تستمر لمدة عشرة إلى عشرين ألف عام, ولقد تكرر هذا النمط عشر مرات خلال المليون سنة الأخيرة, ونحن نعيش الآن قرب نهاية مرحلة دفء طبيعي, فترة بين جليدية بدأت منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام (المرجع السابق, ص: 58).. أي أن الأرض تقترب من بداية عصر جليدي جديد.. وتتحقق نبوءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

ويتوقع «هال ماكلور» عودة البحيرات إلى صحراء شبه الجزيرة العربية, فقد لاحظ في تموز (يوليو) 1977 سقوط أمطار شبه موسمية على امتداد ثلاثة أسابيع في شمال الربع الخالي, ولم ينتج عن ذلك تشكل بحيرات جديدة, ولكن ـ على حد قوله ـ «إذا تكرر هذا الأمر وبقوة كافية لتكوين بحيرات فقد يكون ذلك مؤشرا على عودة الأمطار الموسمية إلى الربع الخالي ومعها انقلاب في المناخ( آفاق علمية, عدد(24), ص: 15)

تطور مناخ السعودية وأثره على هجرات البشرية) مجلة الخفجي, عدد سبتمبر 1980, ص 25), أصبحت حقيقة علمية الآن بفضل البعثات الجيولوجية الباحثة عن بصمات تلك الأزمنة الغابرة في قلب رمالها.


 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/64-Sixth-Issue/351-Back-Arabian-Peninsula-meadows-and-rivers