وهذا القدر الذي يكون الغلاف المائي للأرض موزونا بدقة بالغة, فلو زاد قليلا لغطي كل سطحها, ولو قل قليلا لقصر دون الوفاء بمتطلبات الحياة عليها.
ولكي يحفظ ربنا( تبارك وتعالي) هذا الماء من التعفن والفساد, حركه في دورة معجزة تعرف باسم دورة المياه الأرضية تحمل في كل سنة380,000 كيلو متر مكعب من الماء بين الأرض وغلافها الغازي, ولما كانت نسبة بخار الماء في الغلاف الغازي للأرض ثابتة, فإن معدل سقوط الأمطار سنويا علي الأرض يبقي مساويا لمعدل البخر من علي سطحها, وإن تباينت أماكن وكميات السقوط في كل منطقة حسب الارادة الإلهية, ويبلغ متوسط سقوط الأمطار علي الأرض اليوم85,7 سنتيمتر مكعب في السنة, ويتراوح بين11,45 متر مكعب في جزر هاواي وصفر في كثير من صحاري الأرض. وصدق رسول الله( صلي الله عليه وسلم) إذ قال: ما من عام بأمطر من عام.
وإذ قال:... من قال أمطرنا بنوء كذا أو نوء كذا فقد كفر; ومن قال أمطرنا برحمة من الله وفضل فقد آمن.
وتبخر أشعة الشمس من أسطح البحار والمحيطات320,000 كيلو متر مكعب من الماء في كل عام وأغلب هذا التبخر من المناطق الاستوائية حيث تصل درجة الحرارة في المتوسط إلي25 درجة مئوية, بينما تسقط علي البحار والمحيطات سنويا من مياه المطر284,000 كيلو مترا مكعبا, ولما كان منسوب المياه في البحار والمحيطات يبقي ثابتا في زماننا فإن الفرق بين كمية البخر من أسطح البحار والمحيطات وكمية ما يسقط عليها من مطر لابد وأن يفيض إليها من القارات.
وبالفعل فإن البخر من أسطح القارات يقدر بستين ألف كيلو متر مكعب بينما يسقط عليها سنويا ستة وتسعون ألفا من الكيلو مترات المكعبة من ماء المطر والفارق بين الرقمين بالإيجاب هو نفس الفارق بين كمية البخر وكمية المطر في البحار والمحيطات(36,000 كيلو متر مكعب) فسبحان الذي ضبط دورة المياه حول الأرض بهذه الدقة الفائقة.
ويتم البخر علي اليابسة من أسطح البحيرات والمستنقعات, والبرك, والأنهار, وغيرها من المجاري المائية, ومن أسطح تجمعات الجليد, وبطريقة غير مباشرة من أسطح المياه تحت سطح الأرض, ومن عمليات تنفس وعرق الحيوانات, ونتح النباتات, ومن فوهات البراكين.
ولما كان متوسط ارتفاع اليابسة هو823 مترا فوق مستوي سطح البحر, ومتوسط عمق المحيطات3800 مترا تحت مستوي سطح البحر, فإن ماء المطر الذي يفيض سنويا من اليابسة إلي البحار والمحيطات( ويقدر بستة وثلاثين ألفا من الكيلومترات المكعبة) ينحدر مولدا طاقة ميكانيكية هائلة تفتت صخور الأرض وتتكون منها الرسوبيات والصخور الرسوبية بما يتركز فيها من ثروات أرضية, ومكونة التربة الزراعية اللازمة لإنبات الأرض, ولو أنفقت البشرية كل ما تملك من ثروات مادية ما استطاعت أن تدفع قيمة هذه الطاقة التي سخرها لنا ربنا من أجل تهيئة الأرض لكي تكون صالحة للعمران...!!!.
خامسا: توزيع الماء علي سطح الأرض:
تقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو1360 مليون كيلو متر مكعب, أغلبها علي هيئة ماء مالح في البحار والمحيطات(97,20%), بينما يتجمع الباقي(2,8%) علي هيئة الماء العذب بأشكاله الثلاثة الصلبة, والسائلة, والغازية; منها(2,15% من مجموع مياه الأرض) علي هيئة سمك هائل من الجليد يغطي المنطقتين القطبيتين الجنوبية والشمالية بسمك يقترب من الأربعة كيلو مترات, كما يغطي جميع القمم الجبلية العالية, والباقي يقدر بنحو0.65% فقط من مجموع مياه الأرض يختزن أغلبه في صخور القشرة الأرضية علي هيئة مياه تحت سطح الأرض, تليه في الكثرة النسبية مياه البحيرات العذبة, ثم رطوبة التربة الأرضية, ثم رطوبة الغلاف الغازي للأرض, ثم المياه الجارية في الأنهار وتفرعاتها.
وحينما يرتفع بخار الماء من الأرض إلي غلافها الغازي فإن أغلبه يتكثف في نطاق الرجع( نطاق الطقس أو نطاق التغيرات المناخية) الذي يمتد من سطح البحر إلي ارتفاع يتراوح بين16 و17 كيلو مترا فوق خط الاستواء, وبين6 و8 كيلو مترات فوق القطبين, ويختلف سمكه فوق خطوط العرض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية, فينكمش الي ما هو دون السبعة كيلو مترات في مناطق الضغط المنخفض ويمتد إلي نحو الثلاثة عشر كيلو مترا في مناطق الضغط المرتفع, وعندما تتحرك كتل الهواء الحار في نطاق الرجع من المناطق الاستوائية في اتجاه القطبين فإنها تضطرب فوق خطوط العرض الوسطي فتزداد سرعة الهواء في اتجاه الشرق متأثرا باتجاه دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق.
ويضم هذا النطاق66% من كتلة الغلاف الغازي للأرض, وتتناقص درجة الحرارة والضغط فيه باستمرار مع الارتفاع حتي تصل الي نحو60 درجة مئوية تحت الصفر والي عشر الضغط الجوي العادي عند سطح البحر في قمته المعروفة باسم مستوي الركود الجوي وذلك لتناقص الضغط بشكل ملحوظ عنده.
ونظرا لهذا الانخفاض الملحوظ في كل من درجة الحرارة والضغط الجوي, والي الوفرة النسبية لنوي التكثف في هذا النطاق فإن بخار الماء الصاعد من الأرض يتمدد تمددا ملحوظا مما يزيد في فقدانه لطاقته, وتبرده تبردا شديدا ويساعد علي تكثفه وعودته الي الأرض مطرا أو بردا أو ثلجا, وبدرجة أقل علي هيئة ضباب وندي في المناطق القريبة من الأرض.
سادسا: دحو الأرض معناه إخراج غلافيها المائي والغازي من جوفها:
ثبت أن كل ماء الأرض قد أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) من داخل الأرض عن طريق الأنشطة البركانية المختلفة المصاحبة لتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض.
كذلك فإن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون, وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته, وزهوره, وثماره, ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي, لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض, ولا كستها الخضرة.
سابعا: من معجزات القرآن الإشارة إلي تلك الحقائق العلمية بلغة سهلة جزلة:
علي عادة القرآن الكريم فإنه عبر عن تلك الحقائق الكونية المتضمنة إخراج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض من داخل الأرض بأسلوب لا يفزغ العقلية البدوية في صحراء الجزيرة العربية وقت تنزله, فقال( عز من قائل):( والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها) والعرب في قلب الجزيرة العربية كانوا يرون الأرض تتفجر منها عيون الماء, ويرون الأرض تكسي بالعشب الأخضر بمجرد سقوط المطر, ففهموا هذا المعني الصحيح الجميل من هاتين الآيتين الكريمتين, ثم نأتي نحن اليوم فنري في نفس الآيتين رؤية جديدة مفادها أن الله( تعالي) يمن علي الأرض وأهلها وعلي جميع من يحيا علي سطحها أنه( سبحانه) قد هيأها لهذا العمران بإخراج كل من أغلفتها الصخرية والمائية والغازية من جوفها حيث تصل درجات الحرارة الي آلاف الدرجات المئوية مما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة, وببديع الصنعة, وبكمال العلم, وتمام الحكمة, كما يشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي هذا الوحي الخاتم بأنه( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السموات والأرض, فلم يكن لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بحقيقة ان كل ماء الأرض, وكل هواء الأرض قد أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) من داخل الأرض, وهي حقيقة لم يدركها الإنسان الا في العقود المتأخرة من القرن العشرين فسبحان منزل القرآن من قبل أربعة عشر قرنا ووصفه بقوله الكريم: قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما( الفرقان:6)
وصلي الله وسلم وبارك علي رسولنا الأمين الذي تلقي هذا الوحي الرباني فبلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين, والذي وصفه ربنا( سبحانه وتعالي) بقوله الكريم: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا( النساء:166).