logo.png
مسيرة التقدم العلمي- قراءة مختلفة
طباعة



مسيرة التقدم العلمي..قراءة مختلفة

 

 

د. عدنان محمد فقيه

 

 

جامعة الملك عبد العزيز

 

التناقض سمة لا تكاد تنفك عنها معرفتنا الإنسانية عبر مسيرتها في طريق التقدم والتطور، وشاهد ذلك سلوكنا الفكري نفسه، فنحن اليوم نختلف عنا بالأمس.. ونحن غداً غيرنا اليوم، أفكارنا غير أفكارنا ومفاهيمنا غير مفاهيمنا! وقبل أربعة عشر قرناً من الزمان قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة فنزل فيما نزل منه قول الحق تبارك وتعالى: )أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا( النساء:82، أي أفلا يتأملون ويتفكرون في القرآن ولو كان مصدره غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وقد ذكر المفسرون أن "الاختلاف" الذي لا يمكن أن نجده في القرآن هو التضاد بين آياته فيما بينها ومناقضة بعضها البعض، أو أنه مناقضة القرآن للوقائع المعلومة والحقائق المقررة. ومعنى ذلك أن أي معرفة إنسانية المصدر مهما تقدمت وتطورت فسيلازمها الاختلاف الكثير المشار إليه في الآية الكريمة، وذلك لكونها(من عند غير الله). ومن نافلة القول أن نشير إلى وضوح هذه الحقيقة فيما يسمى ب"العلوم الإنسانية" كالآداب وعلوم الاجتماع والنفس والفلسفة والتاريخ فإن الاختلافات بين المدارس التي تقوم عليها هذه العلوم لا تكاد أن تحصى. ومن المعلوم أن كل اختلاف في أصول هذه العلوم ومقدماتها يقود إلى اختلاف أكبر في فروعها وبالتالي في نتائجها ومقرراتها. بل إن ذلك ينطبق أيضاً على العلوم الشرعية التي تخضع للذهن البشري كالفقه مثلاً فإن الاختلافات بين الفقهاء لا تكاد أن تنحصر نظراً لتفاوت العقول والأفهام، فكيف إذاً يكون شأن غيرهم من المفكرين الذين لا يسلمون من اختلافات العقول والأهواء على حد سواء. يبقى لدينا المسألة التي ربما بدت أكثر خفاءً، والتي تتعلق بالمعرفة التي يقدمها لنا "العلم Science" بوصفه درة تاج المعرفة الإنسانية وفخرها.. هل هناك "اختلاف كثير" فيما تقدمه لنا المعرفة "العلمية" بوصفها معرفة بشرية في نهاية المطاف؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نوفق بين التقدم العلمي الذي نراه وبين طبيعة التناقض الذي تقتضيه المعرفة البشرية؟ هذا ما سوف نحاول أن نلقي الضوء عليه في هذه المقالة من خلال رؤية جديدة للتقدم العلمي تستلهم نصوص القرآن ونظرة الإسلام للكون والوجود.

 

قبل أن نشرع في موضوعنا يحسن بنا أن نعود إلى لفظ في الآية الكريمة التي افتتحنا بها المقال وهو قوله تعالى "يتدبرون" ومعنى تدبر الأمر: نظر في عاقبته ونهايته، ولا يخفى البعد الزمني لهذا المعنى حيث إن نهاية الأمر وعاقبته "تتخلف" عن بدايته ومقدمته. ومن هنا يمكن استنباط أن الاختلاف الكثير المشار إليه في الآية ربما أمكن إدراكه في "سياق زمني" يجعل ما هو "من عند غير الله" من المعارف غير صامد على امتداد الزمن بل عرضة للتغيير والتبديل، هذا إضافة إلى المعنى المتبادر للاختلاف والذي يمكن إدراكه دون الحاجة إلى السياق الزمني كما في العلوم الإنسانية التي أشرنا إليها في بداية الحديث. فلا بد لنا إذاً من النظر في فلسفة تطور "العلم" باعتبار المعرفة التي قدمها لنا العلم عبر القرون الماضية هي الشيء الذي نريد عرضه على سنة "الاختلاف الكثير" في هذه المقالة.

 

كيف يتقدم العلم؟!

 

نعرض هنا نماذج من آراء فلاسفة القرن العشرين في مسألة التقدم العلمي وذلك في إيجاز شديد قد لا يسلم من إخلال غير متعمد، يضطرنا إليه ضيق المساحة من جهة وكوننا لا نهدف من هذا العرض إلى استقصاء آراء الفلاسفة في هذه المسألة، إذ غرضنا أن نبين الاختلاف الجذري بين الرؤية الإسلامية المقترحة وبين غيرها من أطروحات الفلسفة الغربية.

يرى كارناب والذي يمثل اتجاه "التجربية المنطقية" التي تعتمد الاستقراء أسلوباً للوصول إلى الحقيقة العلمية، بأن التطور العلمي إنما يتم عن طريق "تأييد" المشاهدة المستقاة من التجربة للنظرية المقترحة من العقل وكلما ظهرت نتائج جديدة لتجارب مختلفة حول نظرية ما كلما تأيدت صدقية هذه النظرية وعلى ذلك فالتقدم إنما يتم بتراكم المعرفة شيئا فشئياً الأمر الذي يستشهد فيه عادة بمقولة إسحاق نيوتن الشهيرة: "إنني لم أستطع أن أرى أبعد من الآخرين إلا عندما صعدت على أكتاف من سبقوني".ورغم الجهد الذي بذله كارناب في تنقيح وتعديل "التجريبية المنطقية" لإنقاذها من النقد الشديد الذي وجه إليها، إلا أنها لم تستطع أن تحافظ على بريقها القديم فنشأت بعدها تيارات فلسفية أخرى، كان من أشدها عليها المنهج التكذيبي الذي تبناه كارل بوبر.

فقد حمل بوبر وهو أحد ألمع فلاسفة القرن العشرين على تصور "التأييد" الذي قدمه كارناب لتقدم المعرفة العلمية وقال إن التجربة لا يمكنها أن "تؤيد" شيئاً البتة، إنما يمكنها فقط أن تنقض أو "تكذِّب" نظرية أو فكرة ما إذا ما أسفرت عن نتائج لا توائم هذه الفكرة أو تلك النظرية. وبعبارة أخرى فإن مجرد موافقة التجربة لتصور نظري معين لا يعني أن هذا التصور صحيح إنما يعني فقط أننا لا نملك دليلاً على خطئه. ويحدث التقدم العلمي حسب بوبر حينما تظهر نتائج مناقضة لتصور نظري معين فعندها يتم التخلي عن هذا التصور والانتقال إلى تصور آخر قادر على أن يستوعب نتائج التجربة التي أظهرت خلل التصور الأول، فالمسألة كلها تعتمد على "تكذيب" النظرية لا على تأييدها. كما يؤكد بوبر أن النظرية الحديثة يجب أن تكون أكثر قابلية "للتكذيب" من سلفها أي أن تكون أكثر تحديداً من حيث محتواها العلمي وأكثر عرضة ـ من حيث المبدأ ـ لإجراء تجارب عملية تظهر زيفها، إذا ما كانت غير صحيحة، وبهذه السلسلة المتتالية من النظريات القابلة للتكذيب يتم التقدم العلمي في رأي بوبر.

ويرفض توماس كُوُن اعتبار تأييد النظرية عند كارناب وتكذيبها عند بوبر أساساً للتقدم العلمي، ويقدم رؤية بديلة ليقول أن التقدم يتم بواسطة انتقال المجتمع العلمي من "نموذج إرشادي Paradigm يعمل ويفكر من خلاله إلى نموذج إرشادي آخر. ففي ظل النموذج الإرشادي الذي يتبناه المجتمع العلمي يكون النتاج العلمي "تراكمي" فيجري تفسير الوقائع وتوجيه البحث العلمي في إطار هذا النموذج، فإذا ما ظهرت بعض النتائج "الشاذة" التي لايمكن تفسيرها حسب هذا النموذج، فإنه يُحاوَل حينئذٍ احتواؤها بتعديل النموذج الإرشادي وليس بإسقاطه، حيث يرى كُوُن أن النموذج الإرشادي السائد يكتسب حصانةً ضد "التكذيب" فلا يمكن إسقاطه فور ظهور بعض النتائج المكذبة له كما يعتقد بوبر، بل يلزم أن يوجد نموذج إرشادي بديل يمكنه أن يحتوي النتائج الشاذة إضافة إلى تلك التي فسرها النموذج السائد، وأن يكون المجتمع العلمي قد شعر أن النموذج السائد لم يعد بإمكانه أن يلبي حاجاته فحينها ينتقل المجتمع العلمي إلي النموذج الإرشادي البديل. وتسمى مرحلة الانتقال هذه من النموذج الإرشادي السائد إلى البديل بالثورة العلمية، والتي يمتنع كُوُن عن تفسير كيفية وسبب حدوثها عازياً ذلك إلى أسباب علمية وثقافية واجتماعية ونفسية معقدة.

وفي مقابل رؤية النموذج الإرشادي التي يقدمها كُوُن، يرى لاكتوش أن التقدم العلمي إنما يتم بواسطة تنافس "برامج البحث" القائمة في المجتمع العلمي، حيث تمثل الثورة العلمية ـ في نظره ـ تفوق "برنامج بحث" على آخر، ويعد برنامج البحث متقدماً عن غيره إذا كان نموه النظري متقدماً على نموه الإمبريقي

(التجريبي) ، وكان لديه تنبؤات ناجحة إلى حد ما، بينما يكون برنامج البحث متدهوراً إذا تخلف نموه النظري عن نموه الإمبريقي، وأعطى تفسيرات بَعدية إما لاكتشافات عشوائية أو لوقائع مفسرة مسبقاً من قبل برنامج بحثي آخر.

 

أما لاري لودان فتتميز رؤيته حول التقدم العلمي باستنطاق التاريخ العلمي الذي يلاحظ فيه النقاط التالية:

1. لايمكن الاحتفاظ بالمحتوى المنطقي أو الإمبريقي للنظرية حينما تحل محلها نظرية أخرى

(أي لا تراكمية مع التقدم العلمي)

 

2. لا تنبذ النظريات ببساطة لأن لها شواذ، كما لا تقبل ببساطة لأنها مؤيدة إمبريقياً

(أي لا "تكذيب" ولا "تأييد") .

 

3. التغيرات في النظريات والمناقشات التي تصحبها غالباً ما تكون في المستوى المفهومي لا الإمبريقي.

4. لا يمكن اعتبار أن التقدم العلمي يتجه نحو فهم أو مطابقة "حقيقة العالم".

وبناء على هذه الملاحظات فإن لودان يقدم نموذج "حل المشكلة" على أساس أنه هو المحرك لعملية التقدم العلمي بدلاً من اعتبار أن التقدم العلمي مرهون باقتراب النظريات العلمية من فهم "حقيقة العالم". يتقدم العلم ـ حسب لودان ـ في حالة وجود نظريات متتابعة تحل كل واحدة منها مشكلات أكثر من التي تحلها سابقتها. كما يرفض لودان بناء على الملاحظات السابقة النظر إلى المعرفة العلمية على انها تراكمية ويرى أن التقدم العلمي يتعلق بتفضيل النظرية التي يمكنها حل عدد أكبر من المشكلات الإمبريقية وفي الوقت نفسه انتاج أقل عدد من الانحرافات والمشكلات التصورية، ولا يتعلق بمحاولة الحفاظ على الموروث المنطقي أو الإمبريقي للعلم.

 

أهمية التجربة في التقدم العلمي:

 

وكما هو واضح فإن فلاسفة العلوم لم يسلموا من "الاختلاف الكثير" الذي نتحدث عنه باعتبار الطبيعة الإنسانية لفرع المعرفة التي تنسب إليها أطروحاتهم، والتي أشرنا إلى وضوح الاختلاف فيها في مقدمة الموضوع! وبالرغم من ذلك فيمكننا ملا حظة قاعدة مشتركة بين هذه الرؤى المتفاوتة تتمثل في أهمية الدور الذي تلعبه التجربة عند الجميع في عملية التقدم العلمي سواء كان ذلك ب"التأييد" عند كارناب أو ب"التكذيب" عند بوبر أو بغيرها من الأدوار التي تلعبها التجربة بشكل متفاوت عند فلاسفة العلم. ومن المعلوم أن القفزة الكبرى في تاريخ العلم إنما كانت بإدخال عنصر التجربة في عملية محاولة فهم الطبيعة وبنبذ طريقة الفلاسفة اليوناين في التوصل إلى حقائق الأمور عن طريق الطريقة المنطقية والتأمل الخالي من الاستعانة بالتجربة. والذي ينسب إليه عادة حمل لواء هذه الفلسفة

(فلسفة المنهج التجريبي) هو فرنسيس باكون، رغم أن الانتقادات التي وجهها هو وغيره من فلاسفة الغرب للمنهج الأرسطي الذي يهمل التجربة في بداية عصر "التنوير" لم تكن في جوهرها جديدة حيث سبق إليها العلماء المسلمون قبل ذلك بقرون من أمثال الغزالي وابن تيمية وغيرهم2 بل وشرعوا في تطبيق المنهج التجريبي في أبحاثهم3. ولسنا نحتاج هنا أن نؤكد على أن العلم لم يكن ليتقدم لولا توظيف نتائج التجربة في العملية العلمية فهو أمر متفق عليه، ولكن السؤال المطروح هو لماذا كان للتجربة هذا الدور الأساس في تقدم العلم؟ إن الرؤية الغربية تنسب الفضل في تقدم العلم للإنسان وحده ولملكاته المتميزة وترى أنه نجح باستخدام هذه الملكات في "قهر" الطبيعة و"السيطرة" عليها، مع إنه لم يكن ليستطيع ذلك ـ إن سلمنا له جدلاً بأنه استطاع ذلك ـ إلا "بتعاون" الطبيعة معه فمن ضمن له هذا التعاون؟ وبدلاً من أن ينبهر الإنسان بالطبيعة وخالقها عند استكشافه لها وللقوانين التي تحكمها انبهر بنفسه هو فكان شأنه كمن عثر على آلة معقدة نفيسة تزخر بالعجائب في كهف مهجور فاعتبر الإنجاز الأعظم هو عثوره على الآلة ولم يتوقف ليعجب كيف صنعت ولا من صنعها؟

 

 

نحو رؤية إســـلاميـة للتقـــدم العلـمــي:

 

نعود مرة أخرى لنسأل لماذا كان للتجربة هذا الدورالأساس في تقدم العلم؟ سوف نحاول الإجابة عن هذا السؤال بطرح أفكار يمكن أن تكون أساساً لنظرية جديدة حول التقدم العلمي تستلهم الرؤية الإسلامية للكون والوجود وتسترشد بتصريحات وإشارات القرآن الكريم.

المتأمل في المنهج العلمي التجريبي ـ الذي يعزى إليه ما نراه من تطور علمي بلغت به البشرية خلال قرون معدودة مبلغا متقدما ـ يجد أنه يقوم على أربعة عناصر هي:

1. "المفاهيم" التي هي في ذهن العالِم أو الباحث والتي يستخدمها في صياغة نظريته.

2. عملية "القياس"

(أو التجربة) والتي تستنطق الطبيعة لتقدم حكمها على فكرة أو نظرية ما.

 

3. "المنطق" الاستدلالي والذي يحاول أن يوفق بين التصورات والمفاهيم وبين نتائج التجربة ببناء نماذج تفسيرية ـ تنبؤية عادة ما تكون على شكل صيغ رياضية.

4. "الطبيعة" والتي هي المرجع الذي يستخدم للتمييز بين ماهو صحيح وخطأ عن طريق التجربة.

وباستثناء عنصر الطبيعة فإن العناصر الثلاثة الأولى هي إما من صنع الإنسان أو أنها لا تخلو من تدخل العنصر الإنساني، وهي على ذلك عرضة للتناقض ب"التعريف القرآني" لكونها من عند غير الله. وذلك على العكس من عنصر الطبيعة والتي يصفها الله عز وجل فيما يصفها من آيات الكتاب بآيتين نرى أنهما أساسٌ لا تقوم للعلم التجريبي قائمة دون الاعتماد عليهما.

أما أولاهما فهي قوله تعالى: )مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ( الملك:3، والتفاوت يعني الاختلاف ولا يمكن أن يكون معنى الاختلاف هنا متجهاً إلى الأشكال والهيئات فإننا نراها مختلفة متباينة في خلق الرحمن، يبقى أن يكون عدم التفاوت هنا هو عدم الاختلاف بين أفراد الجنس أو النوع الواحد في الخصائص التي يتميز بها عن غيره وفي القوانين والسنن التي تحكمه وهذه قاعدة لا يستغني عنها المنهج العلمي، إذ إنه يكتفى بالعينة عن جميع أفراد النوع بدلالة: )

مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( فافراد النوع تتصرف بشكل متماثل في الظروف المتماثلة أي أنها باختصار تخضع لسنن وقوانين لا تحيد عنها.

وأما الآية الثانية فهي قول المولى عز وجل: )فَلَن تَجـِدَ لِسُنــَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجـِدَ لِسُنــَّةِ اللَّهِ تَحْوِيل( فاطر:43، الأمر الذي يشير وبوضوح إلى ثبات السنة والقانون الطبيعي عبر الزمن. ومن خلال فهم هاتين الآيتين يمكننا أن نقول إن هناك افتراضين ضمنيين لا بد منهما لتبرير استعمال التجربة كأداة من أدوات التقدم العلمي، مع أنه لا نكاد أن نرى أي تسليط للضوء عليهما من قبل المشتغلين بالعلم، لما قد ينشأ عنهما من أسئلة ميتافيزيقية! هذان الافتراضان هما:

(1) إن هذا الكون محكوم بقوانين وسنن وهو ما أشارت له الآية الأولى و (2) إن هذه السنن لا تتبدل ولا تتغير وهو تصريح الآية الثانية. وبدون هذين الافتراضين تصبح محاولة التقدم في مجال العلم ضرباً من العبث، إذ ما فائدة أن أجري تجربة ما وأحصل على نتائج إذا كانت هذه النتائج لا تحكمها قوانين وإنما تظهر بشكل عشوائي، ثم مافائدة التجربة إذا كانت هناك قوانين لكنها تتبدل على الدوام فإذا اكتشفتُ قانوناً اليوم، يتعين علي أن أعيد عملية الاكتشاف غداً، إذ قد يتغير هذا القانون ليحل محله آخر. وبهذين الفرضين ينتفي عن الطبيعة أي تناقض فهي تسير طائعةً وفق سنن الله التي لا تتبدل: )ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ( فصلت:11، فتدخل الطبيعة بذلك ضمن تعريف ما هو من عند الله، بخلاف الإنسان الذي ربما سار على منهج الله وربما حاد عنه لذلك فما يصدر عنه من أقوال وتصرفات لا يكون بالضرورة من عند الله على الرغم من أنه هو ذاته من خلْقِ الله: ) أَوَلَمَّآ أَصَابَـتـْكـُم مـُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْـتـُم مِّـثْلَيْهَا قـُلْتـُمْ أَنـَّى هَذَا قـُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أنفُسِكـُمْ( آل عمران:165. ولا نريد أن نخوض كثيراً في مسألة ما إذا كان كل ما يصدر عن الإنسان هو من عند الله باعتبار قوله تعالى: )وَاللَّهُ خَلَقَكــُمْ وَمَا تَعْمَلــُونَ

( الصافات:96، فلهذا الموضوع تفصيل معروف يمكن الرجوع إليه في مظانه من كتب العقيدة، لكن الذي يفصل في هذه المسألة ضمن الإطار الذي نتحدث فيه هو وجه التحدي في آية )أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا

( فليس هناك وجه للتحدي إلا إذا وُجد مصدر غير إلهي للمعرفة يكثر الاختلاف والتناقض فيما ينشأ عنه، وهذا الوصف يصدق قطعاً على الإنسان.وبعد تقرير هذه المقدمات فيسعنا أن نقول:إن التقدم العلمي يتم إذا انتفى عن أدواته المستخدمة فيه عنصر التناقض الذي هو إنساني المصدر، وحيث إن الإنسان لا يمكنه أن ينفك عن كونه مُدخلاً من مدخلات العملية العلمية فإن التقدم يحدث كلما حدث تصحيح للعوامل الإنسانية المنسوبة إليه

(والتي ذكرناها أعلاه) بحسب ما تمليه نتيجة التجربة. ويتناسب مقدار التقدم في المعرفة العلمية مع مقدار هذا التصحيح الذي نتحدث عنه، فكلما كان التصحيح كبيراً كانت قفزة العلم كذلك والعكس صحيح. ويمكننا في ضوء هذا أن نعيد قراءة تاريخ العلم الحديث لنلحظ أنه ما من قفزة علمية كبيرة إلا وكان وراءها اكتشاف لخلل كبير في إحدى الوسائل الإنسانية المستخدمة في العملية العلمية.

 

 

القفزة الأولى: الثورة العلمية

 

فمن ذلك أن الإنسان لبث قروناً طويلة منذ الحضارة الإغريقية وهو يراوح مكانه في مجال التقدم العلمي بسبب اعتماده على الفكر والتأمل وحدهما في منهج الوصول إلى المعرفة، إلى أن وضع يده على وسيلة التجربة التي مثلت المعيار الذي يمكن أن يحتكم إليه "الاختلاف الكثير" الذي ينشأ عن الفكر والتأمل فكانت القفزة العملاقة التي بدأت باكتشاف كوبيرنيكس ثم قوانين نيوتن إلى غيرها من منجزات العلم فيما تلا ذلك من سنوات. فكان الخلل الكبير الذي تم اكتشافه في تلك المرحلة هو أن الإنسان منعزلاً عن الطبيعة مكتفياً بملكاته الخاصة

(الفكر والخيال) لا يمكنه أن يصل إلى المعرفة التي تيسر له فهم الطبيعة والاستفادة منها، نظراً لعرضة هذه الملكات للتناقض والخلل.

 

 

القفزة الثانية: النظرية النسبية

 

ومن القفزات الكبرى للعلم أيضاً ثورة النظرية النسبية فإن العنصر الأول من مدخلات العملية العلمية التي ذكرناها أعلاه والذي يتعلق بالمفاهيم الإنسانية قد ظهر اختلاله أيما ظهور في ظل هذه النظرية، فمفهوم المكان والزمان هما من أكثر المفاهيم الفيزيائية أساسية وبساطة وبالرغم من ذلك فقد تبين أن هناك خلل كبير في تصورنا عنهما فالزمان والمكان ينحنيان في متصل رباعي الأبعاد! والآنية بين الأحداث لم تعد ممكنة! والزمن يتباطأ كلما ازدادت السرعة! والأجسام المتحركة يقصر طولها في اتجاه الحركة كلما أسرعت حتى يصبح صفراً إذا بلغت سرعتها سرعة الضوء! وسرعة الضوء لا تتأثر بسرعة المصدر أو الراصد! وغير ذلك مما يترتب على صحة النظرية النسبية. إن هذه المفاهيم لم تكن مفاهيم جديدة كمفهوم الإلكترون مثلاً حينما تم اكتشافه، وهي بذلك لم تكن "إضافة" علمية، بل كانت تصحيحاً جذرياً لمفاهيم مسبقة موجودة في ذهن الإنسان وكانت هذه المفاهيم المسبقة تستخدم كمدخلٍ من مدخلات العملية العلمية! فمن كان الذي يعوق الإنسان في طريق تقدمه العلمي؟.. إنه الإنسان ذاته! وبقدر حجم التصحيح الذي طرأ على أداة "المفاهيم" عنده كان حجم القفزة العلمية التي ولَّدها هذا التصحيح؛ أعني النسبية.

 

القفزة الثالثة: نظرية الكم

 

أما بالنسبة لثورة الكم فإن التصحيح كان جذرياً أيضاً ولكنه كان على مستوى عملية القياس التي تمثل العنصر الثاني من العناصر الإنسانية المدخلة في العملية العلمية والمذكورة آنفاً. فقد تبين أن هناك حدوداً عليا للدقة في القياس متمثلة في مبدأ "عدم التحديد" والذي يقضي بأن هناك سقف أعلى للدقة في قياس طاقة الجسيم ومكانه في نفس الوقت فكلما زادت دقة قياسنا لطاقته قلت دقة قياسنا لمكانه والعكس صحيح. والسبب في ذلك أن عملية القياس نفسها تؤثر في طاقة الجسيم المقاس فتحدث خطأً في نتيجة قياس طاقته، أو تؤثر في موقع الجسيم المقاس فتحدث خطأً في تحديد موقعه، ويمكن لنا أن نتجنب أحد الخطأين ولكن لا يمكننا بحال من الإحوال أن نتجنب كليهما في نفس الوقت. فإذا ما حاول الإنسان أن يتجاوز هذه الحدود المضروبة على عملية القياس أدى ذلك إلى التأثير في نتيجة التجربة العلمية بسبب تدخله فيها، فتزول بذلك سمة "عدم الاختلاف" التي أعطت للطبيعة خاصية الهيمنة على العملية العلمية وتوجيهها بوصفها العنصر الوحيد الذي لا يوجد به تدخل إنساني. فإذا تدخل الإنسان أيضاً في عنصر الطبيعة هذا لم يبق أمامه إلا "التناقض الإنساني" وقد وضع اللثام عن وجهه ليكشف عن عشوائية لايمكن التنبؤ بها أو تناقض منطقي بين الطبيعة الموجية والطبيعة الحبيبية للجسيمات أو خلل مفهومي فيما يخص "الحقيقة الموضوعية" وما إذا كان القمر موجوداً إذا لم يكن ينظر إليه أحد على حد تعبير آينشتين5! لقد كان على الإنسان أن يؤمن بقصورعملية القياس التي يقوم بها إذ إنها تؤثر في ما يقيس وكان عليه أن يبتعد عن القياس المباشر للجسيمات وأن يكتفي بمراقبة تصرفاتها بشكل جماعي ليضمن عدم تأثيره على معيارية الطبيعة التي هي سر نجاح التقدم العلمي، وليكتشف النظام المذهل في هذا التصرف الجماعي الذي ينبئ عن نظام ونسق رائعين تلتزم بهما هذه المخلوقات، لتمكننا من خلال هذا الالتزام من القفزة العلمية الرائعة التي كان من آثارها الصناعات الإلكترونية من أصغرها وحتى الأقمار الصناعية! ولهذه القضية دلالات وآثار كثيرة يضيق المقام عن وصفها وتتبعها.

 

القفزة الرابعة: ثورة الكومبيوتر

 

بقيت قفزة أخيرة من قفزات العلم نريد أن نستشهد بها في إطار الرؤية التي نتحدث عنها وهي صناعة الكومبيوتر

(أو الحاسوب) ، فبالرغم من دور مكانيكا الكم في تطوير جانب المعدات في الكومبيوتر )Hardware (، فإن الجانب البرمجي ) Software ( لم يكن تطويره من اختصاص الفيزيائيين بل كان في الأصل من اختصاص الرياضي

 

بدأت قصتهم في هذا الشأن حينما حاول هلبرت )

Hilbert ( أن يقدم برنامجا ـ عرف فيما بعد بمشروع هلبرت ـ لصياغة الرياضيات في صورة "نظام استنتاجي معياري" يمكن بواسطته أن يجعل من عملية إثبات أو نقض العبارات الرياضية عمليةً إجرائية تنشأ من المسلمات الأولية المعروفة. لقد أراد هلبرت أن "يؤطر" جميع الرياضيات، وقد كانت الفكرة مغرية جداً فيما يخص الرياضيات بالذات لأنها تعتمد على عمليات عقلية بحته لا مكان فيها للتردد ولا الشك وبذلك فقد كانت مرشحةً لمثل هذ التصييغ. غير أن الرياضي النمساوي ـ الأمريكي كورت غودل ) Godel ( أثبت في العام 1931م أن ذلك غير ممكن من حيث المبدأ وذلك لأن أي "نظام استنتاجي معياري" إما أن يكون متناقضاً ذاتياً ) inconsistant ( أو غير كامل.) incomplete ( ويوضح لنا شيتن ) Chaitin ( هذه المسألة في كتابه: "ما لا يمكن معرفته" بالمثال التالي والذي نحاول فيه إثبات أو نقض العبارة التالية: "هذه العبارة غير قابلة للإثبات"

 

فنحن حيال هذه العبارة أمام أمرين إما أنه يمكن إثباتها وإما أنه لا يمكن ذلك وفي كلا الحالتين تواجهنا مشكلة! فإذا أمكننا إثبات هذه العبارة فإنها تعتبر حينئذٍ عبارة "خاطئة" من حيث مطابقتها للواقع لأنها تقول عن نفسها أنها غير قابلة للإثبات بينما أمكننا إثباتها وهذ يقودنا إلى "التناقض الذاتيInconsistence " حيث إننا بذلك نثبت عبارة خاطئة. أما إذا افترضنا صحة محتوى العبارة فقلنا إننا بالفعل لا يمكننا إثباتها فهذا يعني أن العبارة في ذاتها "صحيحة" من حيث مطابقتها للواقع وبالتالي فإننا نعجز عن إثبات عبارة صحيحة وهذا يقودنا إلى "عدم الكمال Incompletenes". ولقد وصف غودل اكتشافاً مشابهاً لمفارقة في "نظرية الممجوعات" نبه إليها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، وصفه بـ "الحقيقة المذهلة بأن حدسنا المنطقي والرياضي متناقض مع ذاته". وبعد خمسة سنوات من اكتشاف غودل أي في العام 1936م نشر تورنغ )

Turing ( بحثه الذي أرسى فيه قواعد الكومبيوتر الرقمي والذي صار قاعدة لصناعة الكومبيوتر فيما بعد. وفي هذا البحث أعاد تورنغ اكتشاف نظريتي "التناقض الذاتي" و "عدم الكمال" من منظور برمجي بالنسبة لمعيارية المنطق الاستنتاجي، ولكنه في نفس الوقت أثبت أنه يمكن وجود "نظام حسابي معياري" كامل أي أنه يمكن لأي "لغة برمجة" أن تعبر عن أي خوارزمية ممكنة (الخوارزمية: هي مجموعة من الخطوات المحددة والتي تهدف إلى حل مشكلة ما، دون الحاجة إلى تفكير أو إبداع) . لقد أراد هلبرت أن يصمم لغة خاصة يمكنها استيعاب المنطق الرياضي فلم يفلح إذ تبين أن ذلك لا يمكن لفجوة موجودة في المنطق الرياضي اكتشفها غودل، لكن تورنغ أثبت أنه يمكن تصميم لغة برمجة لتمثيل أي خوارزمية ومعنى ذلك أن مشروع هلبرت قد نجح ولكن في "الحساب" لا "الاستدلال". ومن هذا التاريخ الموجز يظهر لنا كيف أن العلم قفز هنا قفزة كبيرة وهي قفزة الكومبيوتر بعد أن تبين الإنسان خللاً خطيراً في حدسه الرياضي والمنطقي والذي يمثل العنصر الثالث من عناصر العملية العلمية التي حددناها سابقاً.

 

وبهذا السرد... ينكشف لنا أنه وراء قفزات العلم الكبيرة كان هناك دائماً اكتشاف لخلل كبير في إحدى مدخلات الإنسان البشرية في العملية العلمية..."المنطق"

وبذلك يتضح أن الإنسان لم "يقهر"... نظرياته.

ماهي حقيقة المعرفة العلمية؟

ولكن مالذي كان وراء هذه القفزات العلمية؟ وما هو المحتوى المعرفي الذي سعى العلم إلى تحصيله على مدى هذه القرون؟ لقد رأينا كيف اختلف فلاسفة العلم حول تراكمية العلم أو ثوريته. وعلى سبيل المثال نحن لا يمكننا أن نفهم تراكمية العلم بالنظر إلى مفهوم الجاذبية عند نيوتن ومفهومها عند آينشتين، فمفهومها عند الأخير كان انقلاباً على مفهومها عند الأول وليس إضافةً له، فلا تراكمية إذاً من هذا المنظور. ولكن في المقابل إذا كان العلم لا يتقدم بالتراكمية بل بالانقلابات أو الثورات كما يقول كُوُن أو بتكذيب النظريات كما يرى بوبر، فأين مكان الإنجازات المعرفية العلمية السابقة في هذه الحالة؟ هل تذهب سدىً وتضيع هباءً. لعلنا نجد إضاءة في طريق الجواب الصحيح في وجهة نظر فاينمان حيث يقول في معرض شرحه لفكرة أن العلم لا يفسر لماذا تعمل الجاذبية ولكنه يصف كيف تعمل وصفاً كمياً، يقول فاينمان: "وبالمثل فإن جميع قوانين الميكانيكا هي قوانين رياضية كمية ليس لها آلية تبرره"، ويقول أيضاً في معرض شرحه لطريقته المبتكرة في حسابات الاحتمالات الكمية أنه لا يوجد لدى الفيزيائيين نموذجاً جيداً لتفسير ظاهرة الانعكاس السطحي بين سطحين كل ما يمكن أن يعملوه هو أن يحسبوا الاحتمالات.! إن معادلة شرودنغر بالرغم من أنها تمثل أحد الدعامات الرئيسة لمكانيكا الكم لا يُعرف لها أصلٌ تُستنتج منه! لقد كانت تخميناً جيداً من شرودنغر وحسب! إن الأمر يبدو إذاً متعلقاً ب"الحساب" دون "المفاهيم" ودون الارتباط بالواقع. فالمعرفة العلمية يمكن أن تدرك بشكل تراكمي من زاوية دقة الحسابات التي تقدمها لا من زاوية صحة المفاهيم ولا من زاوية الاقتراب من معرفة "حقيقة العالم". والذي يدعم هذه الرؤية هو التمثيل الرياضي للظواهر الفيزيائية والذي لا يكاد أن ينفك عنها، وهو بلا شك ينطوي على تمثيل كمي )quantitative

( أكثر مما ينطوي على تمثيل مفهومي ) conceptual ( لها، إذ من السهل تحويل المعادلات إلى أرقام، ولكن ليس من الممكن دائماً تفسير ما تعنيه المعادلات في صورة مفاهيم مدركة (كالمفاهيم التي تتبناها النسبية مثلاً، أو مفهوم "الطاقة السالبة" عند ديراك!) . وكلما تقدم العلم أصبح تمثيلنا الكمي ـ أي "حساباتن" التي نقدّر بها العالم الفيزيائي ـ والذي نتعامل من خلاله مع العالم الواقعي أكثر دقة، فحسابات نيوتن لحركة الأجرام السماوية دقيقة لكن حسابات آينشتين أدق، ومن هنا تبدو السمة التراكمية للعلم أكثر وضوحاً على المستوى "الحسابي" منها على المستوى "المفهومي".

 

وإذا اعتبرنا هذه الرؤية ونظرنا إلى التسلسل التاريخي للقفزات العلمية الكبرى والتي بدأت برصد حركة الأجرام السماوية ثم ما تلا ذلك من كشوف وإنجازات متوالية حتى اختراع الكومبيوتر، لا نملك إلا أن نتصور مسيرة تقدم المعرفة العلمية على أنها قفزات من إنجاز "حسابي" إلى إنجاز "حسابي" آخر تبلورت غايتها في نهاية المطاف في صورة اختراع يدعى "الحاسوب"! والذي يقف خلف أعظم الإنجازات التقنية التي بلغتها البشرية. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نلمح في لفظ "الحساب" في قول الحق سبحانه وتعالى:

(هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس:5، إشارة "للعلم Science" من حيث "محتواه" باعتباره سلسلة من الإنجازات "الحسابية"، ومن حيث "نتيجته" باعتبار اختراع الحاسوب نهاية المطاف الذي وصل إليه، وخصوصاً أن الآية أشارت في صدرها إلى الشمس والقمر وجعلت ذلك مقدمة لعلم"الحساب" الأمر الذي يتوافق مع كون الثورة العلمية بدأت أول ما بدأت بدراسة حركة الأجرام السماوية!

 

 

هل بلغ العلم نهايته؟

 

لكن ذلك يطرح سؤالاً مهما: هل يعني هذا أن العلم قد استنفد أغراضه وبالتالي شارف على نهايته؟ إذا أجبنا بنعم فلن يكون جوابنا جديداً أو غريباً، فلقد ألّف جون هورغان كتاباً أسماه "نهاية العلم" جمع فيه آراء أكثر من أربعين عالماً من أبرز علماء الدنيا في مختلف التخصصات، كان قد أجرى مع معظمهم مقابلات أثناء عمله محرراً في مجلة )Scientific American

( وكان رأي كثيرٍ منهم أن العلم قد استنفد أو أوشك على أن يستنفد أغراضه. ورأى البعض أن قرب نهاية العلم ربما كانت بسبب نجاحه الباهر في الوصول إلى الحدود التي يمكن أن يصل إليها، كما حدد آخرون من العلماء بعض المشكلات المعدودة (على الرغم من صعوبتها البالغة) في حقول تخصصاتهم المختلفة والتي بقي للعلم أن يقول فيها كلمته ثم ينتهي من مهمته على حسب رأيهم10.

 

غير أن الرؤية التي اقترحناها للتقدم العلمي لا تعني بلوغ الحد الأعلى للمعرفة الإنسانية وإن كانت ربما توحي ببلوغ الحد الأعلى للمعرفة العلمية كما نعرفها، إذ بالنظر إلى "التصحيحات" التي كان على الإنسان أن يقوم بها ليتقدم في طريق العلم ـ كما شرحنا ذلك من قبل ـ يبقى لنا "تصحيح" أخير وخطير لم نتطرق إليه وهو المتعلق برؤية الإنسان للوجود والكون أي رؤيته العَقَدية التي كان اختلالها سبباً في تخبطه في تفسيراته الميتافيزيقية لكثير من النواميس والقوانين الكونية التي اكتشفها. ولا شك أن عدم وضوح هذه الرؤية العقدية يؤثر على فهم الإنسان لحقائق الأشياء ويحصر فهمه في ظواهرها وهو المجال الذي لا يدعي العلم أنه قد تجاوزه حتى الآن فالعلم يهتم ويتعلق بالظواهر لا بالحقائق. إن الرؤية الإسلامية تقول إن الإنسان خلق ليُستخلف في الأرض وأن ما في الأرض جميعاً خلق له )هُوَ الـَّذِى خَلَقَ لَكُم مـَّا فِى الأرْضِ جَمِيعًا

(البقرة:29، وأن ما في السموات والأرض مسخر له ) وَسَخـَّرَ لَكُم مـَّا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ جَمِيعًا مِّنـْهُ
( الجاثية:13، فإلى أي حد يمكن أن يبلغ مدى هذا التسخير؟ لقد رأينا كيف سخر الله الطير لداود عليه السلام )
وَالطــَّيْرَ مَحْشـُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
( ص:19، ورأينا كيف سخر الله الريح لسليمان عليه السلام؟ )
فَسَخـَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ
( ص:36، فلماذا لم يبلغ العلم الحديث بإصحابه ولو إلى حد يقترب من هذا التفاهم المباشر بينهم وبين الكائنات التي تُكوِّن هذا الكون وتعمره؟ إن التصور الإسلامي للوجود يرى أن كل ما في هذا الكون يسجد لله، ويسبح له )
وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

( الإسراء:44، فهناك قاسم مشترك بين جميع المخلوقات لا يمكن أن يدركه من لا يؤمن بالله تعالى أصلاً، ولذلك لا يمكن أن يبلغ كمال التسخير الذي كان شرطه القيام بحق الخلافة في الأرض من لا يقيم حق الخلافة في نفسه هو فضلاً عن أن يقيمها فيما حوله. وحينما توجد النفوس التي تقيم حق هذا الاستخلاف على ذواتها وفي ما حولها ستنال حظاً أكبر من منحة التسخير إذ ستوجد حينها لغة مشتركة بينها وبين هذه الخلائق التي تعمر الكون ويصبح التفاهم أكثر سلاسة وأقل كلفة حتى:

(يقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله..)

11 ويتحقق وعد الله تعالى إذ يقول: )وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ

(الأنبياء:051. والحمد لل

 

 

الهوامش والمراجع:

 

1- معظم محتويات هذه ا لمراجعة مستقاة من بحث "التقدم العلمي ومشكلاته" للدكتور سيد نفادي والمنشور في مجلة عالم الفكر الكويتية المجلد التاسع والعشرون ـ العدد الثاني ـ أكتوبر / ديسمبر 2000.

2- ينظر في ذلك كتاب "المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني" لمصطفى طبطبائي، ترجمة عبدالرحيم ملازئي البلوشي. منشورات دار ابن حزم 1410هـ ـ 1990م.

3- ينظر في ذلك كتاب "روائع الحضارة العربية والإسلامية في العلوم" للأستاذ الدكتور علي عبدالله الدفاع، منشورات مؤسسة الرسالة 1418هـ.

4- كان يمكن للإنسان آنذاك أن يستوعب درساً آخر فيما يخص المعرفة الميتافيزيقية أيضاً والتي لا يمكن إدراكها عن طريق التأمل والفكر بل تحتاج إلى مصدر آخر للمعرفة "معصوم" من التناقض والقصور ليصححها ويسددها ولا يصدق ذلك إلا على الوحي المحفوظ... لكن الإنسان للأسف لم يفعل ذلك.

5- من مشكلات ميكانيكا الكم المعروفة "العشوائية المحضة" التي تنسب لحركة الجيسمات، والطبيعة الموجية ـ الحبيبية المزدوجة للجسيمات، كما إن من أشهر التفسيرات التي اقترحت لحل إشكالية مكيانيك الكم تفسير مدرسة كوبنهاغن والذي تزعمه الفيزيائي نيلز بور حيث يرى هذا التفسير أنه لا وجود موضوعي للأشياء، وأن الأشياء توجد فقط عندما نقوم بقياسها عندئذٍ فقط تنهار الدالة الموجية الممثلة للجسيم في نقطة ما لتجعل له وجوداً موضوعيا. وقد اعترض آينشتين على هذا لتفسير في مساجلات شهيرة بينه وبين بور وكان مما قاله أنه "لا يصدق أن القمر لا يكون موجوداً إذا صادف في ليلة أن لم ينظر إليه أحد".

11- جاء في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود)
.

 

6- Chaitin, G.J., 1999, The Unknowable, Springer-Verlag, Singapore.

8- Feynman, R. ,1995, Six Eesy Pieces, Penguin Books, Middlesex, England.

9- Feynman, R. ,1995, QED: The strange theory of light and matter, Penguin Books, Middlesex, England.

10- Horgan, J., 1996, The end of Science, AddisonWesley, Reading, Massachusetts.

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/66-Issue-VIII/538-The-march-of-scientific-progress-different-reading